المشاجرات تحت قبة
البرلمان الأردني ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ولا هي فريدة! فبرلمانات عديدة حول العالم شهدت مشاجرات أسوأ، ولكن يكاد يكون رئيس مجلس النواب الأردني عبد الكريم الدغمي نموذجا فريدا بأسلوب إدارته الفظ، فضلا عن نواب آخرين لم يكن لهم أن يحلموا بدخول البرلمان لولا ذلك القانون الأعوج الذي سهل مهمتهم.
لا أبالغ حين أقول؛ إن أعداء
الديمقراطية والعدالة والنزاهة في الأردن بمختلف مواقعهم ودرجات ولايتهم ومسؤوليتهم؛ هم الأكثر سعادة بهذه المشاجرات التي تشوه صورة المؤسسة التشريعية وتجعلها مثارا للاستهزاء ولنقد برامج السخرية السياسية، حتى صار المواطن العادي يفضّل حلّ البرلمان على ذلك المشهد المخزي المتكرر من مشاجرات يتبادل فيها ممثلو الشعب اللكمات ولا يتورعون فيها عن الشتائم ونعت بعضهم بعضا بأبشع النعوت.
الذاكرة القصيرة للوعي الجمعي للمواطنين، تجعلهم يركزون على
المشاجرة الأخيرة في البرلمان وينسون ما أشيع من فترة حول مشاجرات داخل أروقة الحكومة ذاتها، وكان رئيس الوزراء شخصيا طرفا فيها، بل وينسون مقطع الفيديو للشرطة وهي تنهال بالضرب على أحدهم بعد إقناعها له بالعدول عن فكرة الانتحار لأجل حياة كريمة له!! كان التعبير عنها بالعصي والهراوات.
نحن في مجتمع تكررت فيه حالات بائسة من جرائم العنف الأسري والمشاجرات ذات البعد القبلي، حتى داخل أروقة الجامعات والمؤسسات التعليمية، ومجلس النواب يعكس صورة مصغرة للمشهد
نحن في مجتمع تكررت فيه حالات بائسة من جرائم العنف الأسري والمشاجرات ذات البعد القبلي، حتى داخل أروقة الجامعات والمؤسسات التعليمية، ومجلس النواب يعكس صورة مصغرة للمشهد الذي نعيشه في الواقع شئنا أم أبينا.
صحيح أن هذا المجلس نتاج مشوه بفعل القانون العجيب الغريب الذي ينفرد به الأردن عن جيرانه ومثيلاته من الدول، مع عزوف كثير من المواطنين عن ممارسة الاستحقاق الدستوري بالانتخاب، وعليه صارت النتيجة كما ترون، ولكن حتى لو تغير قانون الانتخاب فلن تختلف احتمالية حدوث المشاجرات، ولكن قد تختلف طريقتها.
شخصيا، أشعر بالشفقة لأجل شخصيات وازنة ومحترمة، قدّر لها أن تكون في البرلمان إلى جانب رئيس وعدد من الأعضاء يتصرفون بشكل غير حضاري واستفزازي في كثير من الأحيان، حتى وهم يتداولون أبسط القضايا؛ فالعبرة ليست بمضمون النقاش بقدر ارتباطها بعقلية وطريقة الحوار وفرض الرأي لأجل الحفاظ على الهيبة كما يقال.
أكاد أتفق مع الرواية التي تقول إن المشاجرة الأخيرة في البرلمان الأردني على هامش نقاش موضوع الأردنيين والأردنيات دبّر لها من قبل، وأن بعض النواب سيقوا بسذاجة إليها، وأن لها ما بعدها بالتعامل داخل المجلس، وخصوصا ما يتعلق بإحالة البعض للجنة القانونية.
أكاد أتفق مع الرواية التي تقول إن المشاجرة الأخيرة في البرلمان الأردني على هامش نقاش موضوع الأردنيين والأردنيات دبّر لها من قبل، وأن بعض النواب سيقوا بسذاجة إليها
في الأردن يمكن للصلح العشائري أن يتقدم على القضاء، ولشيء سمّي بمجلس الأمن القومي ضم عددا من رؤوساء الوزارات الذين انتهت صلاحية بعضهم منذ عقود؛ أن يتقدم على الحكومة والبرلمان، وقس على ذلك.
وهذا بالمحصلة يجعل الدولة بلا مؤسسات مستقلة أو قائمة على عدد من السلطات الضعيفة، بشكل يسمح للدولة العميقة وأجهزتها أن تتحرك كما تشاء وبالأجندة التي تريد.
تخيلوا لو كان الوزير قويا، حينها لا يستطيع ضابط أمني صغير أن يملي عليه تعليمات بفصل فلان وتعيين علان وعبر الهاتف فقط.
تخيلوا حال الدولة لو كانت هناك كتل قوية ووازنة في البرلمان تحاسب المسؤولين وتحجب الثقة عن الحكومة إن أخطأت وتضع الأمور بنصابها، حينها سيأتي الوزراء إلى قبة البرلمان وهم يحسبون لها ألف حساب.
يستمر العزف على نغمة الانتقاص من الشعب ومستوى وعيه ونضجه لتبرير الحالة القائمة، مع التعامي التام عما يسببه ذلك من خطر على الأجيال القادمة، إن لم يتحرك العقلاء لإنقاذ الموقف قبل فوات الأوان
الواضح أن هذه الدرجة من النزاهة والشفافية مرفوضة؛ لأنها ستعمل مثل حجارة الدومينو بفضح الفاسدين ولا تستثني أحدا، وعليه يحافظون على وجود برلمان للديكور فقط كما قالها ذات مرة الدغمي نفسه، وليقولوا للأمريكان وغيرهم: نحن نحاول ونسعى وما زال شعبنا غير مؤهل، والدليل ما يحدث داخل قبة البرلمان، وأنتم تلاحظون بأنفسكم دون حاجة لنخبركم بشيء.
ويستمر العزف على نغمة الانتقاص من الشعب ومستوى وعيه ونضجه لتبرير الحالة القائمة، مع التعامي التام عما يسببه ذلك من خطر على الأجيال القادمة، إن لم يتحرك العقلاء لإنقاذ الموقف قبل فوات الأوان.
كل يوم تزداد الحاجة لتدخل العقلاء لإنقاذ الموقف، مع الأمل بتواضع البعض ونزولهم عن برجهم العاجي وإصلاحاتهم الشكلية، لأجل تغيير شامل قبل أن تغرق السفينة أكثر وأكثر.