هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم تكن اللغة العنيفة التي حملها بيان الرئاسة الجزائرية بخصوص ما حدث على الحدود المغربية الموريتانية وأودى بحياة ثلاثة مواطنين جزائريين، حسب ما جاء في البيان الذي اعتبرهم بالمناسبة "رعايا"، شيئا جديدا كما تشير إليه بعض الكتابات، فقد توالت المفردات نفسها تباعا وبشكل متكرر في بيانات وتصريحات تلت تبني مجلس الأمن الدولي لقرار تمديد ولاية بعثة المينورسو بالصحراء يوم 29 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، في انتكاسة كانت واضحة للطموحات الجزائرية بشكل عصف بكل الجهد الديبلوماسي الذي كرسته لشهور للتأثير في القرار الأممي.
ففي 31 من الشهر نفسه، أعربت الخارجية الجزائرية عن عميق أسفها للقرار الذي يفتقر إلى المسؤولية والتبصر، معلنة أنه سيفضي حتميا إلى نتائج عكسية وإلى زيادة التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، في تناغم تام مع بيان سابق صدر عن جبهة البوليساريو، التي اعتبرت القرار انتكاسة خطيرة سيدفعها لمواصلة كفاحها ضد الاحتلال المغربي، وإعادة النظر في مشاركتها بالعملية السياسية. الاحتلال المغربي كلمة وردت أيضا في بيان الخارجية الجزائرية، الذي اعتبر أن القرار الأممي من شأنه تشجيع المواقف الابتزازية للدولة المحتلة.
الابتزاز هو التوصيف نفسه الذي صدر عن المبعوث الجزائري الخاص للمغرب العربي والصحراء الغربية، وهو يعلق في تصريحاته في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، على الأسباب الكامنة وراء قرار الرئيس عبد المجيد تبون توقيف العمل بأنبوب الغاز المغاربي، حيث أشار إلى أن الجزائر كانت تعتبر الأنبوب مشروعا للتكامل المغاربي، فيما اتخذه النظام المغربي وسيلة للابتزاز، وجعله رهينة مرتبطة بقضية الصحراء الغربية التي يحتلها بطريقة غير شرعية، قبل أن ينهي بأن الأعمال العدائية، وهو المبرر الذي قدمه بيان الرئاسة الذي أنهى العمل بالعقد المبرم بين البلدين، سيكون لها ثمن، وأن الجزائر الجديدة لن تنخدع بعد الآن وأنها سترد الضربة بالضربة.
في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، تصدر الرئاسة الجزائرية مجددا بيانا متعلقا بالعلاقة مع المغرب، تخبر فيه بمقتل ثلاثة من الجزائريين في قصف همجي، في غمرة احتفال الشعب الجزائري في جو من السكينة والبهجة بذكرى اندلاع ثورة التحرير الوطني المجيدة. البيان الرئاسي أكد وجود عدة عناصر تشير إلى ضلوع قوات الاحتلال المغربية بالصحراء الغربية في ارتكاب هذا الاغتيال الجبان، بواسطة ما أسماه سلاحا متطورا، وتوعد بأن اغتيالهم لن يمضي دون عقاب.
لكن أخطر ما حمله البيان، كان استخدام استخدامه "إرهاب الدولة" في توصيف الحادث، بما يحمله ذلك من دلالات، وإن لم يكن هو الآخر جديدا بعد أن سعى التلفزيون الرسمي قبل أسبوعين لاتهام المغرب بالضلوع في أعمال إرهابية، تستهدف البلاد في برنامج حمل عنوان "خيوط الوهم"، أسابيع بعد اتهامات مشابهة تلت الحرائق التي شهدتها منطقة القبائل وعملية القتل الوحشي لجمال بن اسماعيل على مرأى ومسمع العالمين. مرت العاصفة ولم نعد نسمع عن التحقيقات المتعلقة بالقضية شيئا يذكر، فقد استنفذت الحملة أهدافها.
على مر الشهور الأخيرة، استخدمت الدولة الجزائرية ما امتلكت من أوراق ضد الجارة الغربية، كما صار المغرب يسمى في الإعلام، فقد قطعت العلاقات الديبلوماسية وأغلقت الأجواء، وطردت عددا من المغاربة من أراضي جزائرية كانوا يعتاشون عليها على الحدود، واتهمت الأجهزة الأمنية بالتجسس على المواطنين والمسؤولين، وبتمويل المنظمات الإرهابية الجزائرية واستقطاب العملاء.
وعلى التوازي، أطلقت حملة ديبلوماسية "شرسة" لاسترجاع مناطق نفوذ اعتبرت أن المغرب قد استطاع النفاذ إليها، وألقت بثقلها في منطقة الساحل بالتنسيق مع مرتزقة فاغنر، وحاولت التأثير في القرار التونسي، ومحاولة استمالة موريتانيا للانسحاب من العملية السياسية المعروفة بالموائد المستديرة، ليبقى السؤال: وماذا بعد؟
الرواية الجزائرية للأحداث لا تزال موضع سؤال. فلا موريتانيا ولا القوى الإقليمية المعنية ولا القوة الأممية على الأرض تبنتها. لكن الرئيس تبون يبدو غير مكترث بالجوار حيث دعا، حسب ما يروج، لاجتماع لمجلس الأمن الوطني، وما قد يصدر عنه سيكون محددا لمسار الأحداث، والوعيد المتكرر بـ "الثأر" لا يبشر بخير.
لم يعد من سبيل آخر غير الحرب بما يحمله الخيار من تبعات وآثار. المغرب الذي تجاهل الرد على كل ما سبق واكتفى دوما بالتعبير عن أسفه وتكذيب الادعاءات، اضطر يوم أمس إلى التعليق عبر مصدر مسؤول، دون أن يمثل ذلك موقفا رسميا، لتقديم روايته للحدث؛ حيث أبدى استغرابه من حديث الرئاسة الجزائرية عن وجود شاحنات تجارية بمنطقة الحادث بالنظر لوضعيتها القانونية والعسكرية، قبل أن يرسل إشارتين مهمتين أولاهما أن المغرب ليس راغبا في الحرب ولن ينجر لها، وثانيهما تأكيده أن الشاحنتين عبرتا منطقة ألغام، وأنهما كانتا تحملان عتادا عسكريا للبوليزاريو.
الرسالتان ليستا كلاما اعتباطيا بل فيهما ما يفيد أن القوات المغربية تراقب كل التحركات بالمنطقة، وأنها مستعدة للدفاع عن أمنها ولو استدعى الأمر استخدام السلاح المتطور الذي جاء في البيان الجزائري. القمر الصناعي المغربي والطائرات المسيرة ورقتان مغربيتان استطاعتا قلب موازين القوى، والقرار الأممي وضع الجزائر والبوليزاريو في موقف دفاعي فند أسطورة الحرب "الخيالية" التي تروج لها المنظومة الإعلامية للجانبين، بعد إعلان مقاتلي الجبهة التحرر من اتفاق إطلاق النار. كما أن تأكيد القرار على المائدة المستديرة، التي تضم كل الأطراف المعنية، كآلية وحيدة لتدبير مسلسل التسوية يضيق الخناق عليهما، ويجعل من عدم الامتثال له خرقا في مواجهة المجتمع الدولي الذي كرس مكتسبات المغرب على الأرض، وعلى رأسها تطهيره لمنطقة الكركرات.
الاتهامات الموجهة للولايات المتحدة وفرنسا بممارسة الضغوط أو مهاجمة السعودية وقطر، لتأكيدها الوحدة الترابية للمغرب ومقترح الحكم الذاتي حلا واقعيا وعمليا، أو محاولات افتعال الأزمات لتبرير التصعيد في محاولة لتغيير موازين القوى أو التأثير سلبا فيها، ليس دليلا على القوة الضاربة بل على انحسار الدعاية المؤيدة للانفصال.
لنعود مجددا ونعيد طرح السؤال: وماذا بعد؟
تعتبر الجزائر منطقة الصحراء الغربية امتدادا لأمنها القومي، كما جاء في تصريحات سابقة لرئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق السعيد شنقريحة، كما وقعت اتفاقية حدود مع جبهة البوليساريو كممثل للجمهورية التي أعلنتها في محاولة لاكتساب شرعية التدخل العسكري في الأراضي الصحراوية.
تنبني كل الرواية الجزائرية على معلومات وأخبار صادرة عن أجهزتها وإعلامها.
الموقف المغربي يستمد بعضا من قوته في النفي الموريتاني لوقوع هجوم على أراضيه، بعد أن انتظرت الرئاسة الجزائرية أياما ثلاثا سمحت فيها بتناسل الإشاعات، لعل ذلك يعفيها من مهمة التأكيد على ذمتها. الإعلام الجزائري تلقى قبل أيام صفعة كبيرة من وزارة الخارجية الروسية التي اعتبرت ما خطته صحيفة الشروق بخصوص تصاعد الأزمة بين المغرب وروسيا مجرد أكاذيب سافرة لا توجد إلا في خيال أصحابها. واعتبرت ما جاء في الجريدة نموذجا كلاسيكيا للتضليل والتحليل الكاذب يقدم التمنيات على أنها وقائع، بشكل يظهر أن مؤلفيها يوجدون في عالم مواز لعالمنا.
روسيا أعلم الناس بارتباطات الإعلام الجزائري، وهو ما يجعل بيان حقيقتها متجاوزا لكاتب المقال وناشره. فمن ذا الذي يصدق أن وزارة الخارجية الروسية ستهتم بأكاذيب تنشرها جريدة محلية لا تأثير لها. الامتناع الروسي عن التصويت للقرار الأممي ليس انتصارا بل سنة دأبت عليها روسيا منذ سنوات، أما التصويت التونسي، فلا أهمية له على الإطلاق في غياب مؤسسات لها شرعية تمثيل التونسيين.
الرواية الجزائرية للأحداث لا تزال موضع سؤال. فلا موريتانيا ولا القوى الإقليمية المعنية ولا القوة الأممية على الأرض تبنتها. لكن الرئيس تبون يبدو غير مكترث بالجوار حيث دعا، حسب ما يروج، لاجتماع لمجلس الأمن الوطني، وما قد يصدر عنه سيكون محددا لمسار الأحداث، والوعيد المتكرر بـ "الثأر" لا يبشر بخير.