أقدمت الرئاسة في
تونس على إجراءات استثنائية من حيث تكييفها
الدستوري وأبعادها السياسية. ففي خطوة نوعية أعلن رئيس البلاد في خطاب رسمي
حزمة من القرارات، شملت "إنهاء مهام رئيس الحكومة، وتجميد عمل البرلمان (مجلس نواب الشعب)، ورفع الحصانة عن نوابه"، وهو ما يعني توقف نشاط مؤسستين دستوريتين أساسيتين. وإذا أضفنا إلى ذلك تولي رئاسة النيابة العامة، تُصبح تونس محكومة عمليا من قبل جهة وحيدة هي مؤسسة الرئاسة في شخص الرئيس "
قيس سعيد"، المنتخب بنسبة 72 في المئة في اقتراع 2019.
يبدو طبيعياً أن نؤول الأوضاع إلى ما آلت إليه في تونس، فالتونسيون يجهدون، منذ سقوط رأس نظامهم في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، من أجل التوافق حول صيغة جديدة لإعادة بناء دولتهم ونظامهم السياسي، وُفقوا في العديد من الخطوات، وتعثروا في أخرى كثيرة.
وككل تجربة انتقال من أجل
بناء الديمقراطية وتوطيد مؤسساتها، عاشت تونس قدرا من النهوض ونصيبا من الكبوة والتعثر، لكل ظلت، رغم هذه المراوحة الشقية علامة مضيئة، ونموذجا محفزا على قدرة الإنجاز في خريطة مسارات الدمقرطة في المنطقة العربية.
ككل تجربة انتقال من أجل بناء الديمقراطية وتوطيد مؤسساتها، عاشت تونس قدرا من النهوض ونصيبا من الكبوة والتعثر، لكل ظلت، رغم هذه المراوحة الشقية علامة مضيئة، ونموذجا محفزا على قدرة الإنجاز في خريطة مسارات الدمقرطة في المنطقة العربية
ولعل أبرز ما يساعد على تفسير صعوبات الانتقال إلى الديمقراطية في التجربة التونسية؛ تزامنها مع ظرفية دولية دقيقة وصعبة من الناحيتين الاقتصادية والصحية (الجائحة)، وسياق إقليمي وجهوي نابذ لكل تغيير نحو الأفضل، ناهيك عن ضغط يقل موروث التجارب السابقة، لا سيما من جهة الاختلالات الاجتماعية والمجالية، وتغلغل الفساد في مفاصل الدولة التونسية، والذي لم تنج أطياف من النخبة السياسية التونسية من أضراره على تماسك البلاد واستقرارها.
تبدو القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي يوم الأحد (25 تموز/ يولو 2021) مما يدخل في اختصاصاته الدستورية، وقد استند شخصيا في تبرير الإقدام عليها على أحكام دستور 2014، خصوصا فقرات من
الفصل 80. والحال أن قراءة متمعنة في مضمون هذا الفصل، لا تساعد على تأكيد رجاحة إقدام الرئيس على قرارات من هذه الطبيعة والحجم، كما أن استحضار بُعد الملاءمة الدستورية، وربط هذه الإجراءات ببنية الحياة السياسية التونسية ومكوناتها السياسية يدفعان إلى التأكيد على أن المشكلة في تونس ليس لها وجه دستوري، بل عمق سياسي، وأن الدستور وإن كان بمقدور أحكامه أن تساعد الرئيس على الخروج من أزمته، فإن مفاتيح الخروج الناجح والناجع ستظل سياسية أولا وأخيرا.
لذلك، بقدر ما للنقاش الدستوري أهميته الخاصة من زاوية حماية الشرعية الدستورية والمحافظة على استقرار
أحكام الدستور والمحافظة على سلامتها في التطبيق، بالقدر نفسه، أو أكثر، للمعالجة السياسية للأزمة التونسية قيمتها الواضحة في ما يجري في تونس منذ سنتين.
بقدر ما للنقاش الدستوري أهميته الخاصة من زاوية حماية الشرعية الدستورية والمحافظة على استقرار أحكام الدستور والمحافظة على سلامتها في التطبيق، بالقدر نفسه، أو أكثر، للمعالجة السياسية للأزمة التونسية قيمتها الواضحة في ما يجري في تونس منذ سنتين
فمن زاوية دستورية صرفة، قام الرئيس" قيس سعيد" - وهو خير من يعرف الدستور وأحكامه بسبب تخصصه الأكاديمي - على تفعيل الفصل الثمانين، لا سيما فقرته الأولى، التي تمنح رئيس الدولة في حالة وجود "خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان شعبي".
والواقع أن نصوصا أخرى تخوله هذا الحق، بما لا يتعارض مع الفصل الثمانين وروح الدستور، كما هو واضح في إحدى فقرات الفصل السابع والسبعين، التي قضت بأن يتخذ الرئيس" التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، والإعلان عنها طبق الفصل 80". كما أن الفصل 72، الذي جعل من رئيس الجمهورية "رئيس الدولة ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها"، ألزمه بأن "يسهر على احترام الدستور".
أما من حيث "تجميد عمل البرلمان"، فالإجراءات الدستورية الخاصة بحل "مجلس نواب الشعب" واضحة في الفصل 77، ولا نرى أي توافق سليم مع "تجميد عمل البرلمان" وما هو وارد فق الفقرة الثانية من الفصل الثمانين المشار إليه سابقا، حيث تم التنصيص صراحة على اعتبار "مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد" حين يتم اللجوء الى تفعيل ما ورد في الفقرة الأولى من هذا الفصل.
لا يجوز تحت طائلة أي ظرف كان أن يتم تأويل أحكام الدستور بشكل تعسفي، لا سيما في غياب وجود قضاء دستوري منصّب وقائم، كما هو حال تونس، التي تعطلت في الإعلان الرسمي عن إحدى أهم حلقات منظومتها القضائية، أي المحكمة الدستورية
وبخصوص رفع الحصانة عن النواب، من المعروف أن إكساب الحصانة أو رفعها تنظمها إجراءات دستورية، تحكمها روح الدستور وتدققها قوانين البرلمان أكانت تنظيمية أم عادية أم داخلية، أي لوائح، وفي كل الأحوال تظل الإجراءات التي يقدم عليها رؤساء الدول في النظم الديمقراطية، الخاضعة لحكم القانون والمؤسسات، مقيدة بالدستور، والتطبيق السليم لأحكامه، وبالقوانين المكملة له، ولا يجوز تحت طائلة أي ظرف كان أن يتم تأويل أحكام الدستور بشكل تعسفي، لا سيما في غياب وجود قضاء دستوري منصّب وقائم، كما هو حال تونس، التي تعطلت في الإعلان الرسمي عن إحدى أهم حلقات منظومتها القضائية، أي المحكمة الدستورية.
يمكن أن يكون لخطاب الرئيس التونسي حول "الفساد"، و"جيوب المقاومة"، و"المشاريع الهادفة إلى زرع الفتنة"، و"الإثراء بدون سبب"، وكل الممارسات المعرقلة للتحول الديمقراطي، أحقية ورجاحة. وقد تعرفت على "قيس سعيد"، أستاذ القانون الدستوري، قبل سنين في الجامعة التونسية، ولا ينتابني أدني شك في صدق نواياه، ونظافة أهدافه، غير أن نظرتي لقيس سعيد كرئيس دولة، يقود بلادا متعددة المكونات السياسية والاجتماعية، وفي محيط دولي وإقليمي مضطرب، تقنعني بأن "السياسة فعل الممكن"، وأن آفة الفساد تحتاج إلى بناء تأييد الجميع لمحاربتها والقضاء عليها تدريجيا، وأن البحث عن المشترك من أجل أعادة بناء الثقة في مجتمع عانى من ضيق الحريات وضعف العدالة الاجتماعية، كما هو حال تونس، ما زال في حاجة إلى كل أبنائه الأوفياء، وهم كثر، للمحافظة على استقراره واستمراره.. إن "الفتنة أشد من القتل".