في تونس ما بعد الثورة، لا شيء يصلح أن يكون موضوعا لسجال عمومي مثل موضوع يتعلق بحركة النهضة وبكل حلفائها. إنها أول قواعد "الوظيفية الإعلامية"، أو ما يُسمّى زورا وبهتانا بـ"خطوط التحرير".
ورغم أن موضوع العدالة الانتقالية كان موضوعا "إجماعيا" بين مختلف الفاعلين الجماعيين بعد هروب المخلوع، فإن مسار "الانتقال الديمقراطي" - بالإضافة إلى كون أغلب المستفيدين من جبر الضرر هم من النهضويين رغم وجود غيرهم من اليساريين والقوميين بل الدساترة - جعله يتحول إلى موضوع تنازع أيديولوجي وسياسي يصعب تجاوزه، في ظل الفوضى المعممة داجل أجهزة الدولة ومؤسساتها.
في الفترة الأخيرة، عاد هذا الموضوع إلى الواجهة لأسباب عديدة ظاهرها دعوة السيد عبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى حركة النهضة، إلى تفعيل "صندوق الكرامة وجبر الضرر"، ولكنّ أسبابها أعمق من هذه الدعوة بكثير. فالقانون الأساسي للعدالة الانتقالية ينص على وجوب تفعيل التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة بعد عام من صدوره، وإذا ما استحضرنا أن هذا التقرير النهائي قد صدر في 24 حزيران/ يونيو 2020، فإننا نفهم التصعيد الكبير في هذه القضية قبل أيام من بلوغ الأجل القانوني، سواء أكان هذا الأجل "استنهضايا"، أي "لا يترتب عن عدم احترامه جزاء ولا يعد خرقا تبطل بانقضائه الأعمال"، أم كان مسقطا لحقوق الضحايا كما تريد الأطراف المشيطنة لحقوق الضحايا.
رغم أن موضوع العدالة الانتقالية كان موضوعا "إجماعيا" بين مختلف الفاعلين الجماعيين بعد هروب المخلوع، فإن مسار "الانتقال الديمقراطي" - بالإضافة إلى كون أغلب المستفيدين من جبر الضرر هم من النهضويين رغم وجود غيرهم من اليساريين والقوميين بل الدساترة - جعله يتحول إلى موضوع تنازع أيديولوجي وسياسي يصعب تجاوزه
وسنحاول في هذا المقال أن نتحرر قدر الإمكان من منطق أطراف الصراع وأنساقهم الحجاجية، لنبحث في الأسباب العميقة التي أوصلت ملف
العدالة الانتقالية إلى المأزق الحالي.
فلسفة العدالة الانتقالية
بعد عامين من الثورة توافقت النخب التونسية بمختلف مشاربها الأيديولوجية على القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013، المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها. وليس يعنينا في هذا المقال فهم الدلالات العميقة لتأخّر التوافق حول ملف ذي أولوية قصوى مثل ملف العدالة الانتقالية في مرحلةٍ يُفترض بها أن تكون "تأسيسية" للجمهورية الثانية، ولكن يعنينا أن نعاين "الهوّة السحيقة" بين ما بشّر به قانون العدالة الانتقالية ومحصوله واقعيا. جاء في الفصل الأول من ذلك القانون أن العدالة الانتقالية هي "مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويُوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات"، فماذا تحقق من هذه الغايات؟
لا يحتاج الإنسان أن يكون مختصا في القانون ليفهم أن مسار العدالة الانتقالية "الأصلي" هو ذلك المسار الذي تتلازم فيه المساءلة والمحاسبة مع جبر الضرر ورد الاعتبار، كما لا نحتاج إلى التبحر في القانون وعلوم السياسة لنعرف أن الغاية من ذلك هي حفظ الذاكرة وتفكيك منظومة القمع والاستبداد لتحقيق المصالحة الوطنية وبناء نصاب سياسي "صحي" متحرر من السرديات الصدامية ومنطق التنافي.
إننا أمام قانون يطرح على نفسه مهمة إعادة كتابة الماضي (أي نقد/ تصحيح الرواية الرسمية للتاريخ منذ بناء ما يُسمّى بالدولة الوطنية لأن أعمال هيئة الحقيقة والكرامة تمتد ما بين عامي 1957 و2013)، كما يطرح القانون على نفسه مهمة إعادة هندسة الحاضر والمستقبل بطريقة "توافقية" أساسها "الحقيقة"
إننا أمام قانون يطرح على نفسه مهمة إعادة كتابة الماضي (أي نقد/ تصحيح الرواية الرسمية للتاريخ منذ بناء ما يُسمّى بالدولة الوطنية لأن أعمال هيئة الحقيقة والكرامة تمتد ما بين عامي 1957 و2013)، كما يطرح القانون على نفسه مهمة إعادة هندسة الحاضر والمستقبل بطريقة "توافقية" أساسها "الحقيقة"، وهي حقيقة تستوجب المساءلة والمحاسبة بما هما شرطان ضروريان لجبر الضرر ورد الاعتبار. فهل حافظ مسار العدالة الانتقالية على هذه الفلسفة التشريعية أو على هذه "الروح" الإصلاحية؟
هل تلاعبت حركة النهضة بملف العدالة الانتقالية؟
على عكس ما يعتقد الكثير من النهضويين، فإن قرار قياداتهم "التطبيع" مع المنظومة السابقة لم يأت بعد الانقلاب المصري أو خوفا من تَونسة السيناريو الليبي أو السيناريو السوري، بل كان خيارا استراتيجيا استصحبته قياداتهم المهجّرة بعد عودتهم من المنافي وفرضوه على الحركة منذ رحيل المخلوع.
ولا يمكن فهم العلاقة المتقلبة للنهضة "ظاهريا" بالمنظومة القديمة إلا باعتبارها مناورات أو تكتيكات مؤقتة تستهدف تحسين شروط التفاوض مع تلك المنظومة من جهة أولى، وتخفيف حدة الاحتقان بين القواعد وتجييشهم انتخابيا من جهة أخرى. ولتحقيق هذه الغاية الاستراتيجية قبلت النهضة بفك الارتباط بين المساءلة والمحاسبة وبين جبر الضرر ورد الاعتبار، بل ساهمت في "تبييض" رموز المنظومة القديمة بما سُمّي بـ"قانون المصالحة الاقتصادية"، وكانت قبل ذلك قد أسقطت - كما يتباهى به رئيسها الأستاذ راشد الغنوشي - قانون العزل السياسي للتجمعيين، أي المنتسبين للحزب الحاكم زمن المخلوع.
لا يمكن فهم العلاقة المتقلبة للنهضة "ظاهريا" بالمنظومة القديمة إلا باعتبارها مناورات أو تكتيكات مؤقتة تستهدف تحسين شروط التفاوض مع تلك المنظومة من جهة أولى، وتخفيف حدة الاحتقان بين القواعد وتجييشهم انتخابيا من جهة أخرى. ولتحقيق هذه الغاية الاستراتيجية قبلت النهضة بفك الارتباط بين المساءلة والمحاسبة وبين جبر الضرر ورد الاعتبار
ولا شك في أن إسقاط المساءلة والمحاسبة و"التوافق" مع ورثة المنظومة القديمة يعطي بعض الشرعية لمن يتهم
مقاربة النهضة بأنها مقاربة "تعويضات" لا مقاربة جبر الضرر ورد الاعتبار. ولكن هل يجعل ذلك من منطق خصوم النهضة منطقا "موضوعيا" أو أقرب إلى ملفوظات القانون الأساسي للعدالة الانتقالية و"روحه"؟
"العائلة الديمقراطية" وتواصل منطق التزييف
للإجابة عن هذا السؤال سيكون علينا طرح الأسئلة التالية، وهي أسئلة لن نقدم أجوبتها وسنترك للعقول المنصفة مهمة القيام بذلك:
هل كان خصوم النهضة - أو على الأقل أغلب خصومها - مع تفعيل آليات المساءلة والمحاسبة ضد مجرمي المنظومة السابقة والقائمين على آلتي القمع الأيديولوجي والبوليسي وآلة النهب الاقتصادي؟
هل أظهر هؤلاء الخصوم مبدئية أكبر من حركة النهضة في تعاملهم مع المنظومة القديمة وورثتها؟
هل قبل خصوم النهضة بمراجعة السردية الرسمية لتاريخ الدولة الوطنية وبناء سردية مستأنفة لا تستثني الإسلاميين؟
هل تجاوز مفهوم "المصالحة الوطنية" عند هؤلاء الخصوم سقف التطبيع مع ورثة المنظومة القديمة دون أن يتزحزح عن منطقه الإقصائي/ الاستئصالي لحركة النهضة؟
ماذا فعل هؤلاء الخصوم لإرساء ضمانات تمنع تكرر انتهاك حقوق الإنسان، بل هل تغيّر مفهومهم لحقوق الإنسان بعد الثورة بطريقة تضمن حقوق الجميع تحت سقف الدستور والقانون؟
أليس التشكيك في "مظلومية" النهضة وعذابات أبنائها زمن المخلوع نسفا لأي محاولة لبناء ذاكرة وطنية غير مزيفة؟
لماذا يصر أغلب خصوم النهضة على شيطنتها والتشكيك في "نضالها" زمن المخلوع، بينما لا يجدون حرجا في التطبيع مع ورثة التجمع، ويعتبرونهم شركاء كاملي الحقوق في "النضال" داخل "العائلة الديمقراطية" قبل الثورة وبعدها؟
لماذا يصر أغلب خصوم النهضة على شيطنتها والتشكيك في "نضالها" زمن المخلوع، بينما لا يجدون حرجا في التطبيع مع ورثة التجمع، ويعتبرونهم شركاء كاملي الحقوق في "النضال" داخل "العائلة الديمقراطية" قبل الثورة وبعدها؟
لماذا يصر خصوم النهضة على تزييف الواقع وإبراز صندوق الكرامة وكأنه نهب للمال العام، والحال أنه سيُمول كلُّه بتبرعات أجنبية (لا يمكن صرفها إلا في ما يفرضه القانون الدولي، أي لجبر الضرر، وليست قابلة للصرف في أي غرض آخر كما يدعي الكثيرون)، ولن يكلف دافعي الضرائب إلا عشرة مليارات دينار تونسي، هي أجور الموظفين الذين سيشرفون عليه ولن تعينهم حركة النهضة حتى نشك بإمكانية التلاعب بمخصصاته؟
من لم يجرم في حق الضحايا؟
عندما تحتاج النخب المتحكمة في الشأن العام بعد الثورة إلى ما يقرب من ثماني سنوات لإغلاق ملف العدالة الانتقالية، وعندما يتحول هذا الملف عند قادة حركة النهضة من ملف مساءلة ومحاسبة وتفكيك لمنظومة النهب والاستبداد؛ إلى ملف للتعويض المادي، وعندما يحرص "الديمقراطيون" و"الثوريون" على "تبييض" مجرمي المنظومة السابقة واستهداف ضحاياها استهدافا نسقيا، فإن من المنطقي أن يتحول ملف العدالة الانتقالية إلى ملف للتجاذبات السياسية والحسابات الانتخابية، ومن المنطقي أيضا أن تصبح الحقوق الدنيا لضحايا
الاستبداد (على اختلاف انتماءاتهم) مهددة بالضياع مثل حياة أغلب التونسيين في "زمن
كورونا" وفي زمن الفيروسات الأيديولوجية والمشاعر المرضية التي لا علاج لها.
twitter.com/adel_arabi21