توالت الهبات الشعبية المناهضة لجرائم الاحتلال في أرض
فلسطين خلال الأيام الماضية في عدد كبير من دول العالم، التي خرج مواطنوها في مظاهرات حاشدة حاملين العلم ذا الألوان الأربعة، تعبيرا عن تضامنهم مع المظلومين والمقهورين من أبناء هذا البلد، الذي يعاني الويلات ويعيش منفردا تحت الاحتلال المباشر في عصرنا الحالي. ولم يكن مستغربا مشاهدة أعلام ضخمة تزين مبنى كبيرا أو ترفرف على سارية، كتلك التي شاهدتها على بناية مرتفعة في إحدى المدن البريطانية.
وبينما تتسع دائرة التضامن في العالم الغربي وعدد من الدول العربية، على وقع تحركات ميدانية، وأحداث عفوية كالذي فعله
لاعب فريق ليستر سيتي الإنجليزي عندما رفع علم فلسطين بعد تتويج فريقه بكأس الاتحاد، وأخرى في العالم الافتراضي، شملت تغريدات لمشاهير يساندون أصحاب الحق، استفاق
المصريون على خبر اعتقال صحفية حملت علم فلسطين وحاولت أن تطوف به ميدان التحرير (صاحب الرمزية الثورية)، أعقبه خبر آخر عن
اعتقال قوات الأمن لشاب من ذوي الاحتياجات الخاصة لحمله نفس العلم في المكان نفسه، لتستدعي الذاكرة على الفور مشهد القبض على شاب مصري عام ٢٠١٩، بعد رفعه علم فلسطين في استاد القاهرة خلال إحدى مباريات كأس الأمم الأفريقية الماضية، وكأن السلطات المصرية تتعمد ترسيخ حقيقة جديدة وإرسال رسالة محددة إلى الجماهير، تتمثل في أن رفع علم فلسطين بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون.
لم يعد رفع العلم إذا رمزا للاعتزاز برقعة جغرافية معينة، أو وسيلة للتضامن مع قضية تهم سكان بلد ما؛ فالشعور الطبيعي النابع من الضمير الإنساني تجاه الظلم والقهر والطغيان الذي يتعرض له البشر والشجر والحجر في أرض فلسطين، ليس موجودا لدى من يمسكون بتلابيب السلطة في المحروسة، وكأن فلسطين التي تحدث عنها الدكتور أحمد عمر هاشم، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، في خطبة جمعة تناقلها المصريون بطول البلاد وعرضها، تختلف عن تلك التي يرفع البعض أعلامها في الشوراع؛ فسلطة الطوارئ تؤذيها الهتافات، وتخنقها التجمعات البشرية، ولا تحتمل أن يسير المواطنون في جماعات حتى وإن كانوا من عائلة واحدة.
إن وجود تيار شعبي جارف يساند القضية الفلسطينية في مصر هو أمر طبيعي، وربما كانت المفاجأة في وعي الجيل الشاب الذي لم يشهد فصول الصراع مع المحتل وإنما ورث شعوره من جينات الآباء والأجداد. لكن ما يدفع للتساؤل حقا هو موقف التيار الرسمي من الأحداث الجارية حاليا، وهو ما ظهر على هيئة قرار بفتح
معبر رفح، والإعلان عن استعداد المستشفيات المصرية لاستقبال جرحى الحرب في قطاع
غزة، وخطب رنانة تدعو إلى الزحف نحو بيت المقدس، وبيانات رسمية من وزراء ومسؤولين سابقين - لا يجرؤون على مخالفة هوى النظام - يشيدون بالمقاومة ويطالبون بدعم الحق الفلسطيني، حتى شعر البعض أن الجيش المصري سيعلن التعبئة العامة، ويفتح الحدود أمام المتطوعين الراغبين في تحرير أرض فلسطين.
الحقيقة المؤكدة والتي يعرفها القاصي والداني أن النظام الحالي لم يكن داعما للشعب الفلسطيني أو مناصرا لقضيته في أي وقت من الأوقات؛ وعلى العكس من ذلك، فهو من أحكم الحصار على قطاع غزة المنكوب، بإغلاق معبر رفح -المنفذ الوحيد على العالم الخارجي - وهدم الأنفاق، وأغرق الحدود بالمياه لخلخلة التربة والقضاء على ما تبقى من شرايين الدعم لأهل القطاع، ومسح رفح المصرية من الخارطة لإزالة أي امتداد جغرافي طبيعي قد يشكل نقطة تماس، أو تواصل بين أهل رفح وغزة؛ الذين هم في الأصل إخوة وأبناء عمومة تجمعهم روابط الدم والمصاهرة. وعندما استُقبل جرحى الحرب السابقة تلقفتهم الأجهزة الأمنية وحققت معهم لمعرفة معلومات عن أشخاص بعينهم وأماكن بعينها داخل القطاع، في إطار التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال.. ويبقى السؤال المحير: لماذا تغيرت نبرة الإعلام الرسمي حول الأحداث في فلسطين؟
لا شك أن خطوات مثل إعادة فتح معبر رفح، وفتح أبواب المستشفيات المصرية لاستقبال جرحى القصف في غزة، الذين تخطت أعدادهم 1200 جريح، واجب طبيعي وإنساني محمود؛ لكن السلطة الحالية في مصر عودتنا على الوقوف طويلا أمام قراراتها، وتقليب الأمور وتحليلها، لمعرفة مآلاتها بشكل صحيح؛ فلا يمكن أن يتذكر هؤلاء أواصر الود، وروابط الأخوة بين عشية وضحاها، أو تتنزل الرحمة لتسكن قلوبهم بهذه السرعة. فالتناغم الحادث بين الموقف الشعبي والتصريحات الرسمية يشي بأن النظام يسعى إلى مناورة ما، لا سيما بعد التسريبات التي تحدثت عن تململ المسؤولين عن الملف الفلسطيني في المخابرات المصرية من أفعال سلطات الاحتلال، التي لا تلتزم بوعودها، وتسبب لهم الإحراج عند محاولة الوصول إلى اتفاق مع الفصائل الفلسسطينية.
على مدار الأعوام الماضية، ارتضى النظام المصري القيام بدور التابع الذي يدور في فلك دولة خليجية ما، أو المقاول الذي ينفذ تعليمات صادرة من إدارة الموقع بالخارج، أملا في تثبيت أقدامه والحصول على اعتراف بشرعية الأمر الواقع التي يمثلها في مصر. لكن يبدو أن الأمر تغير مؤخرا؛ فلم يعد النظام يرغب في استكمال هذا الدور، بعدما شعر بعدم جدواه ماديا ومعنويا. فتداعيات كورونا أثرت كثيرا على شحنات "الأرز" القادمة من الخليج، والأزمات الداخلية بدولة الاحتلال أدت إلى نوع من الفتور في العلاقات، رغم استمرار التنسيق الأمني.
وجاء الموقف الأخير كنوع من إثبات الوجود، كطفل قصير القامة يحاول عبثا لفت انتباه الآخرين من خلال الوصول إلى مستوى نظر من يفوقونه في الطول والحجم، وعندما عجز عن ذلك صرخ قائلا "أنا موجود"، في إشارة إلى استعداده
لأداء دور أكبر حجما وأعمق أثرا خلال المرحلة القادمة.
والنظام محق في ذلك تماما؛ فمصر الكبيرة ذات الثقل السياسي الدولي والإقليمي لها مكانتها وإن أدارها قزم، وتبقى فلسطين بأرضها وعلمها في قلوب ملايين المصريين، وإن تاجر بها البغاة المعتدون.