تابع
المصريون والشعوب العربية التلفزيون الرسمي المصري وهو يبث خطبة حماسية عن القدس والمسجد الأقصى المبارك من منبر
الأزهر، وكأنهم يتابعون مسلسل خيال علمي. نصف الشعب المصري، أي نحو خمسين مليون إنسان، هم تحت سن 25 عاما لم يروا شيئا مثل هذا في حياتهم من قبل، ولم يتسن لهم رؤية مظاهرات القاهرة في الانتفاضتين الأولى والثانية عامي 1987 و2001. وإذا أزلت اسم الخطيب الدكتور أحمد عمر هاشم واسم الجامع الأزهر، يمكن أن تكون الخطبة ذاتها للشيخ رائد صلاح مثلا من ناحية المفردات ولهجة الخطاب والمطالب، وربما كان الشيخ رائد سيكون أكثر دبلوماسية في استخدام بعض التعبيرات التي استخدمها الدكتور عمر هاشم.
هذه الخطبة لا تعبر قطعا عن موقف حصري لمشيخة الأزهر وعلى رأسها الدكتور أحمد الطيب الذي يغرد خارج السرب الرسمي في كثير من القضايا الوطنية والإسلامية، بل تعبر عن توجه واضح للدولة في مصر
هذه الخطبة لا تعبر قطعا عن موقف حصري
لمشيخة الأزهر وعلى رأسها الدكتور أحمد الطيب الذي يغرد خارج السرب الرسمي في كثير من القضايا الوطنية والإسلامية، بل تعبر عن توجه واضح للدولة في مصر. وكان البث المباشر واختيار شخصية أزهرية مفوهة تقلدت مناصب رسمية في عهد مبارك اختيارا ذا دلالة، وهي شخصية ليست مرفوضة شعبيا مثل مشايخ العهد الحالي في مصر. يدعم ذلك تغطيات وسائل الإعلام الرسمية المختلفة الذي بدأ وكأنها صحف للتيار الإسلامي وهي تتحدث عن القضية
الفلسطينية والقدس. بل إن
خطاب الخارجية المصرية بدا وكأن البلاد انضمت فجأة لمحور الممانعة والمقاومة.
أجمعت معظم التحليلات على هذا التوجه المفاجئ للنظام المصري تجاه قضية فلسطين والقدس على أنه أمر تكتيكي؛ متعلق بحسابات اللحظة الراهنة والخلافات بين الإدارة الأمريكية الجديدة حول قضايا مثل حقوق الإنسان من جهة، وبين تهميش الدور المصري في المنطقة من جهة أخرى. غير أنني أختلف مع هذه التحليل من عدة زوايا، أولها أن طبيعة النظام الحالي في مصر ليست سياسية مرنة، أي لا تجيد لعبة المناورات والتقدم والتراجع، ولا توجد سوابق سياسية أو دبلوماسية لتغيير دفة
مصر الرسمية فجأة من النقيض إلى النقيض بالنظر لبوصلة المصلحة الوطنية العامة. الطبيعة العسكرية للإدارة الحالية أكثر ميلا إلى التحولات الدائمة والاستراتيجية، مثل التحول البطيء والثابت مع دول مثل قطر وتركيا.
التحليل الأقرب للواقع هو أنه تم إخراج الوصفات القديمة من خزانة مبارك للتعامل مع مثل هذه القضايا الشائكة، فقد كان العهد المباركي يجيد لعبة الشد والجذب في ما يتعلق بمثلث العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة والداخل المصري
من ناحية أخرى، فإن تفاصيل العلاقة بين الفصائل الفلسطينية في غزة مثلا والمخابرات المصرية لم تتغير عن معادلة عهد مبارك، فلم تنقطع الاتصالات والمشاورات والجولات المكوكية، ولا تزال قيادات الفصائل المختلفة، بما فيها حماس، قادرة على السفر للخارج عبر معبر رفح المصري وحضور جلسات التنسيق والمتابعة والتفاوض مع الجانب المصري. أيضا فإن التوجه الحالي من القضية الفلسطينية يصعب التراجع عنه سريعا؛ من ناحية لهجة الخطاب الدبلوماسي والإعلامي الذي أصبح مجردا من أية عناصر فاعلة أخرى، وهو تعبير صريح ومباشر عن النظام، فلا وسائل إعلام رجال أعمال ولا أحزاب ولا حركات إسلامية. ومحاولة لملمة كل هذا الزخم ستحتاج وقتا وهي ليست بالمحاولة الهينة.
التحليل الأقرب للواقع هو أنه تم إخراج الوصفات القديمة من خزانة مبارك للتعامل مع مثل هذه القضايا الشائكة، فقد كان العهد المباركي يجيد لعبة الشد والجذب في ما يتعلق بمثلث العلاقة مع
إسرائيل والولايات المتحدة والداخل المصري. الفارق الوحيد أن مبارك كان يترك المساحة للإسلاميين وغيرهم من قوى المعارضة الشعبية لتقوم بهذه التحركات حتى لا تبدو وكأنها تعبير الموقف الرسمي، ثم يقوم بعد ذلك بمحاولة ضبط الإيقاع. وكان الإسلاميون وقوى المعارضة يجيدون استخدام هذه المساحة لأقصى درجة لتوسيع الهامش الديمقراطي المتاح والبناء عليه بمطالب سياسية مختلفة. أما تجربة العهد الحالي فهي مختلفة، وأتصور أن شرخا أصاب علاقتها مع حكومة نتنياهو تحديدا. وطالما ظل نتنياهو في السلطة سيبقى هذه الشرخ، وقد يؤدي لتغييرات في مصر أبعد من ذلك.
twitter.com/hanybeshr