الإجابة
تونس.. كانت هذه هي الجملة الأكثر تداولا داخل أوساط السياسة والثورة
المصرية في يناير 2011 وما بعدها، فقد كانت التجربة التونسية ملهمة لنا في مصر بعد نجاح ثورتها وما تبعها من ثورات الربيع العربي ضد عتاة الطغاة مثل مبارك وابن علي والقذافي.
ظلت تونس محافظة على رونق تجربتها
وبريق ديمقراطيتها لسنوات طوال، حتى بعد انقلاب الثورة المضادة على إرادة الشعب المصري ومحاولتها تمزيق الثورة في ليبيا وسوريا واليمن، حتى جاء لتونس رئيس جديد، مجهول التاريخ السياسي، معدوم الظهير السياسي، لا يملك من أمره إلا لغة عربية بليغة وخطب رنانة وشعارات عن رفض التطبيع ووعود بنصرة القضية الفلسطينية.
قيس سعيد، الرئيس التونسي الذي توقف به الزمن عند عصور الجاهلية الأولى، الرجل يكتب رسائله بنفسه على ورق البردي، ويرسل حاجبه إلى هذا الوزير محملا برسالة الوالي، ولم يبق له إلا أن يدخل قصر الرئاسة ممتطيا فرسه، ومتوشحا سيفه، ومتوعدا من يخالفه بعذاب كعذاب أمية بن خلف لبلال بن رباح في صحراء مكة.
ككثيرين غيري، استبشرنا خيرا بالرجل المجهول، واستمعنا إلى مناظراته الرئاسية ووعوده الانتخابية الكثيرة وكلنا أمل بمستقبل أفضل للتجربة التونسية، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد تبين أن سعيد هو مزيج فريد بين رجلين قلما استطاع شخص أن يجمع بين صفاتهما؛ سعيد يقدم لنا خليطا بين معمر القذافي بخطبه غير المفهومة وتصريحاته العبثية ومحاولاته الدؤوبة لإثارة الجدل بشكل مستمر، وبين عبد الفتاح
السيسي؛ الجنرال العسكري الذي امتلك كتالوجا واضحا منذ اللحظة الأولى لوأد التجربة الديمقراطية في مصر، وخطط للانقلاب العسكري على إرادة الشعب المصري، وحول مصر إلى ثكنة عسكرية لا يتنفس فيها أحد إلا بأمر العسكر وأتباعهم.
مؤخرا، يبدو أن قيس سعيد لم يكتف باتباع التعليمات الواردة في كتالوج السيسي العسكري، فقرر
زيارة الأخير حتى يدرس التجربة عن قرب ويتعرف أكثر على طريقة السيسي في التمهيد للانقلاب، وخططه لتقسيم الشعب المصري، وكيف استطاع استمالة الجيش والشرطة إلى صفه.
لقد عاد سعيد من زيارة السيسي بوجه غير الذي ذهب به، وكأنه يتلمس أنفاس وخطوات الجنرال لتدمير التجربة التونسية. قال سعيد في
خطابه الأخير إنه القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية، وقصد الجيش، ثم أضاف إليها أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة المدنية، وقصد بها الشرطة. استئثار سعيد بالسلطة وحده
ومخالفته للدستور التونسي هو نفسه ما فعله السيسي منذ اللحظة الأولى من تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت، ثم تعديل الدستور ليبقى في الحكم حتى عام 2030 كرئيس منفرد.
يحاول سعيد تعطيل تشكيل المحكمة الدستورية ويحاول إضافة سلطة جديدة إلى سلطاته، وهو ما يفعله السيسي في مصر من إحكام على السلطة القضائية وجعل اختيار قضاة المحكمة الدستورية والمحكمة العليا بعد موافقته الشخصية.
قيس سعيد الذي قال إبان حملته الانتخابية إن المرفق العمومي (الجيش والشرطة) يجب أن يبقى مرفقا محايدا؛ هو نفسه من هدد وتوعد وأطلق تصريحات نارية ضد الجميع منذ اليوم الأول، ولكن اللافت أن غالبية هذه التصريحات لم تخرج إلا وهو في زيارة لثكنة عسكرية. لا تتعجب فهذا بالضبط ما كان يفعله السيسي في سنواته الأولى ولا زال. فالجيش نار لا تلعبوا معه أو تلعبوا به، والجيش دولة داخل الدولة، والجيش هو من يحمي الدولة، ومن يحاول التخلص من السيسي فعليه التخلص من الجيش أولا.
قيس سعيد الذي يهاجم الإسلاميين ويصفهم بالرجعية وأعداء الوطن، يبدو أنه تعلم درسه جيدا من السيسي الذي يهاجم الإخوان والإسلاميين في كل محفل ويصفهم بأهل الشر. يحاول سعيد شيطنة
حركة النهضة ومؤيديها، وتساعده في ذلك نخبة سياسية تحاول الإطاحة بالنهضة من المشهد السياسي ولو تم ذلك بأيدي العسكر. ولكن يجب على سعيد وتلك النخب هنا أن تعي الدرس مما يحدث في مصر، فالجيش لا يعرف صديقا ولا يحب شريكا في السلطة. سيأتي الجيش ليطيح بالجميع ويسجن الجميع، المؤيدون قبل المعارضين، شركاؤه قبل أعدائه. ولكم في مصر العبرة والعظة في وزير الدفاع صدقي صبحي ووزير الداخلية محمد إبراهيم، شريكي السيسي في الانقلاب، بل امتد الأمر لتشمل الإطاحة بصهره محمود حجازي من رئاسة الأركان.
في الأول من تموز/ يوليو 2013 أمهل السيسي والجيش الجميع مهلة ثمانية وأربعين ساعة ثم بدأ التحرك في الانقلاب العسكري، وفي تونس عاد سعيد من زيارة السيسي ليخاطب الغنوشي والنهضة مهددا "اليوم صبر وغدا أمر"، في رسالة واضحة لما يمكن أن تحمله قادم الأيام على تونس وشعبها ونخبتها السياسية.
إصرار قيس سعيد على الانقسام المجتمعي في تونس، وسط فشله الواضح في ملفات رئيسية تتعلق بالاقتصاد والصحة والتعليم، وفشله الواضح في تقديم مشروع قانون واحد للبرلمان التونسي، مع تداول أنباء عن تلقيه أموال من الولايات المتحدة الأمريكية.. كلها شواهد خطيرة تؤكد أن قيس سعيد يسير على كتالوج السيسي العسكري، وعلى الشعب التونسي أن ينتبه، فإن العسكر إذا دخلوا السياسة أفسدوها.
twitter.com/osgaweesh