1- خطاب الكراهية والفتنة
ليس ثمة ما يهدد النسيج المجتمعي أكثر من خطاب الكراية والفتنة والتمييز بين المواطنين لأسباب عقدية أو حزبية، فالمعارك دائما تثار في اللغة، وكذا مشاريع الوحدة والتضامن تشاع في الكلمات وتصاغ في المفردات المنتقاة.
المتابعون لأداء رئيس الجمهورية
التونسية قيس سعيد لا يحتاجون "تسريبات" حتى يتعرفوا على حقيقته، بل يكفي أن يتابعوا خطاباته منذ توليه رئاسة الدولة عقب انتخابات 2019، فهو لا يكف عن التذكير بكونه رئيسا وحيدا للدولة، ولا يكف عن توجيه التهم لأطراف لا يذكرها؛ يصفها بأبشع النعوت، وهو في كل خطاباته لا ينقطع توتره وتجهمه حتى لكأنه يواجه أعداء لا يستحقون منه إلا البغض والحقد والتقريع والوعيد.
رئيس لا يتكلم عن وعود اقتصادية ولا مشاريع تنموية، بل وفي زياراته الخارجية المحدودة لا يسافر إلا كسائح وليس كرئيس دولة، فلا يصطحب معه وفدا وزاريا أو رجال أعمال وكأنه يسافر في مهام خاصة تعنيه هو وحده ولا تعني التونسيين والدولة التونسيين، وهو الذي يصرف في حله وترحاله من مال الشعب، بل ثمة كلام عن تعمده عرقلة مساعي رئيس الحكومة لجلب استثمارات من دول شقيقة وصديقة.
قيس سعيد، كلما مرت الأيام
تكشفت حقيقته وتعرت نواياه، لا من خلال "تسريبات" وإنما من خلال خطاباته التي تكشف عن جوهره "تكلم حتى أراك"، "ولتعرفنهم في لحن القول". فالرجل لا يدافع عن توسيع صلاحياته لتيسير حركته في خدمة الناس، وإنما يستعجل "الفتك" بمن يراهم خصوما وأعداء لا يخاطبهم إلا بلغة "الحرب" و"النزال" و"السيوف" و"النصر" و"الشهادة"، وكأنه يقود كتيبة مقاتلة على جبهات قبالة عدو محتل أو غازٍ متربص. رئيسنا مولعٌ بالفروسية وأفلام الكرتون، تماما كما الأطفال الصغار يصنعون انتصاراتهم في الصور والأناشيد ولكنهم لا يغادرون فُرشهم إلا بمرافقة من يُشعرهم بالأمان.
إن الحرص على استجماع القوة المادية إنما يعبر عن هوس نفسي وشعور بالخوف وبالحاجة إلى القوة، ولعل هذا ما تابعه التونسيون حين كان الرئيس يلقي خطبه من داخل الثكنات العسكرية، وحين تلقى - ربما - إشارة بعدم
إقحام الجيش في التجاذبات السياسية، حاول مع وزارة الداخلية حيث زارها في رأس السنة الميلادية وخاطبهم بكونه هو القائد الأعلى للجيش وللأمن.
ثم ها هو في الذكرى الخامسة والستين لتونسة الأمن يلقي خطابا بحضور رئيس الحكومة ورئيس البرلمان وفادة أمنيين، ولا يتردد في إعلان نفسه قائدا وحيدا للقوات العسكرية والأمنية، مرددا مفردة "السلاح" مرات، وضاغطا على مخارج حروفها وكأنه في لحظة شهوة عاصفة يرى نفسه فيها يوجه رصاصاته نحو من يعتبرهم خصوما، وقد سبق أن ذكر صواريخ على منصاتها.
مؤسف أن يجد التونسيون أنفسهم مجبرين على تحليل شخصية غامضة بل مكنوزة بالأسرار والألغاز، والمؤسف أكثر أن تلك الشخصية هي شخصية رئيس الدولة، شخصية لا تنتج أفكارا ولا تقدم مشاريع، وإنما ترسل شظايا ويتطاير منها شررٌ ولا تنطق إلا وعيدا وسبابا ووصما بكل معيب.
ما فضلك على التونسيين حتى تخاطبهم بهذا القاموس المؤذي وبهذه الروح القتالية؟ ما فضلك على تونس حتى تطمع في أن تكون سيدها الذي لا شريك له في أمر ولا نهي؟ ما تاريخك حتى تستصغر غيرك؟ ثم ما الذي يمنعك من أن تسمي من تلمزهم بالقول بدل تصديع رؤوسنا بقاموس مفردات خشنة؟ ما الذي يمنعك من تقديم ملفاتك للقضاء في هدوء فيتولى النظر فيها ويتكفل بالفاسدين والمجرمين والخونة؟
لسنا بصدد الحكم على نوايا ولا الاشتغال على "تسريبات"، وإنما نحن بصدد تحليل خطاب يشهد على صاحبه بكل ما يجعلنا نشعر بالقلق على وحدة التونسيين وعلى السلم الأهلي، وعلى مستقبل بناتنا وأبنائنا.
رئيس يشتغل على "التحريض" ويعد بالنصر أو الشهادة؟ النصر على من؟ والشهادة في أي جبهة؟ بل ولأول مرة ينطق الرئيس كلمة "الدماء" وهي أخطر ما ورد في خطابه.
2- عبيد الأحذية ومخصيو الديمقراطية
الهزات السياسية كما الهزات الأرضية؛ تكشف عما تحت الصخور من حشرات وزواحف وعقارب، لقد كشفت أوهام القوة ما يسكن الكثير من التونسيين من أحقاد أيديولوجية ومن طمع في المناصب والمغانم، يتمنون لو أن قوة غاشمة تتمكن من إزالة خصومهم فيحتلون مكانهم. هؤلاء هم الكسالى ممن أقعدتهم جهودهم عن احتلال مكانة ومكان في المشهد السياسي، وممن يعانون "الإخصاء" الديمقراطي حين فشلوا في كسب ثقة الناخب فظلوا يتحينون فرصا للانقضاض على منافسيهم، يريدون إخراجهم من المشهد بل وحتى من الحياة.
لقد كشف الكثيرون عن فساد طباعهم وعن عظيم جشعهم وعن فقرهم القيمي والأخلاقي، لقد عبروا عن خراب ذواتهم ودمارهم الروحي والذهني، إذ طنوا أنهم بين يدي زعيم مقتدر جاءته الدولة كرها وطوعا، لا تعصي له أمرا وتفعل ما يأمر.
هؤلاء السيئون وجب تدوين ما كتبوا لتكون شهادتهم على أنفسهم باعتبارهم أعداء للحرية، وشركاء في مشاريع التخريب والفوضى وفي كل ما قد تنزلق نحوه البلاد.
هؤلاء لم يستوعبوا بعد أن المرحلة مختلفة عن بداية التسعينات، ولم يستوعبوا أن تونس - اليوم - في محيطها الإقليمي والدولي ليست تونس زمن "معصرة اللحم الحي".
3- الحوار الوطني والذهاب إلى الناس
رغم سخونة الأجواء السياسية وانفلات ألسنة بعض الساسة والانتهازيين والمتهورين، فإن قوة عاقلة لا تخلو منها بلادنا، قوة يمكنها أن تشتغل على ترشيد الخطاب ومد جسور التواصل بين "أقانيم" السلطة الثلاثة؛ بهدف إيجاد حلول عاجلة للأزمة السياسية والاجتماعية والصحية التي نحن بصددها.
بادرة الاتحاد العام التونسي للشغل يمكن تحيينها وإعادة عرضها على مختلف القوى السياسية والجمعياتية والحقوقية ورجال الأعمال والإعلاميين والمثقفين؛ لصياغة رؤية مشتركة في حدها التوافقي الأدني لإخراج البلاد من أزمتها وإنقاذ السفينة من الغرق الوشيك.
إن عموم الناس لا تعنيهم معركة الصلاحيات ولا صراع الهويات ولا خطاب التنوير والرجعية، وإنما تعنيهم إنجازات يلمسونها في حليب أطفالهم وأمن بيوتهم ودواء مرضاهم وغذاء عائلاتهم.
وإذا يئس الناس من الدولة ابتلعتهم الفوضى، ولن يحكم إلا ذو مخلب وناب.
رئيس الحكومة مطالب بتحمل مسؤولياته وتفعيل تزكية البرلمان لحكومته، والانصراف لخدمة الناس.. رئيس الحكومة الذي يتهدده الرئيس، فالسطو على أهم صلاحياته يجد دعما قويا من عدة أحزاب وخاصة حزب حركة
النهضة، أقوى حزب في تونس، حيث وجه عدد من قادته نداء للسيد هشام المشيشي بتحمل مسؤولياته وصناعة أمر واقع أمام تعنت رئيس الدولة ورفضه أداء الوزراء القسم أمامه.
بيان
حركة النهضة الأخير وكذلك الحزب الجمهوري وحزب الأمل وبيانات عديد الشخصيات الوطنية الحقوقية والإعلامية والثقافية؛ كلها تحذر من حالة "الانحباس" السياسي وتُحمل رئيس الجمهورية مسؤولية تعطيل مؤسسات الدولة، بسبب رفضه مشروع قانون عرضه البرلمان حول المحكمة الدستورية وبسبب تعطيله لعمل حكومة نالت ثقة البرلمان بنسبة عالية.
ما هو حاصل لدى المراقبين من قناعة هو أن رئيس الدولة ومن يخططون معه يدفعون نحو سقوط الدولة، حتى يتقدموا منقذين وحتى يقيموا الدليل على فشل حركة النهضة تحديدا وحلفائها.
وقديما قالت العرب: "خصى نفسه نكاية في زوجته".
twitter.com/bahriarfaoui1