زيارة الرئيس
التونسي قيس سعيد إلى مصر بدعوة من الرئيس عبد الفتاح
السيسي، التي تمتد من 9 نيسان/ أبريل الجاري إلى 11 منه؛ رافقتها تعليقات واسعة خاصة على الفضاء الافتراضي، وأغلب تلك التعليقات تحوم حول إدانة زيارة رئيس دولة تمر بتجربة ديمقراطية إلى دولة يحكمها رئيس انقلب على الشرعية يوم 3 تموز/ يوليو 2013، ومارس القتل وألقى بالآلاف من مخالفيه في السجون.
تلك المخاوف تجد ما يبررها، حيث لم يكف الرئيس
قيس سعيد إلى ممارسة "الغموض" منذ توليه الرئاسة أواخر 2019، وحيث ظل يلقي خطبه من الثكنات العسكرية ويرسل رسائل مشفرة لجهات لا يحددها، بل يَصِمُها دائما بكل العيوب، ويتوعدها بالمحاسبة، ويعد بالانتصار عليها.
قيس سعيد وجه رسائل سياسية عديدة مفادها عدم اعترافه لا بالأحزاب ولا بالبرلمان، ولا حتى بالدستور، رغم إصراره على التفرد بتأويله، فهو يروج لفكرة اللجان الشعبية ويقول؛ إن الدستور هو ما يخطه الشباب على الجدران.
معارك قيس سعيد ظلت دائما حول صلاحياته، وكونه وحده من يمثل الدولة في الداخل والخارج، تعبيرا عن رفضه للدبلوماسية الشعبية التي مارسها راشد الغنوشي منذ 2011، وحتى في ظل رئاسة الباجي قائد السبسي رحمه الله.
ورغم أن جمهور حركة النهضة قد صوت لقيس سعيد في الدور الثاني، بل ونزل مؤيدو الحركة لشارع الحبيب بورقيبة ليلة إعلان فوزه واحتفلوا في أجواء من الأهازيج والأناشيد والشعارات، إلا أنه - وهي حقيقة مؤلمة - لم يُشعرهم يوما بأنه رئيسهم، بل كل خطاباته المشفرة فيها إساءة لزعيمهم ولقادتهم.
جمهور النهضة خاصة الذي عانى تجربة الاستئصال طيلة عقدين في ظل نظام بن علي، لم يتلق أي إشارة طمأنة من قيس سعيد، هذا الذي يخلو خطابه من مفردات الحرية والديمقراطية والوحدة الوطنية، ولا يتكلم إلا عن الغرف المظلمة والمؤامرات والمنافقين وابن سلول والجاهلية، ولا يكف عن إرسال التهديدات المبطنة والمباشرة.
بعض الأطراف السياسية التي كانت سندا لابن علي في حربه على الإسلاميين، هي نفسها من تصطف اليوم مع قيس سعيد، ولا تخفي تحريضها له عليهم، بل وتزين له "الانقلاب"، رغم أن المؤسسة العسكرية التونسية ذات عقيدة مختلفة عن عساكر الانقلابات.
في
المؤتمر الصحفي المشترك بين السيسي وسعيد، سمعنا كلاما عن اتفاق حول مقاومة الجماعات المتطرفة بكل الوسائل، ومثل هذا الخطاب كان دائما مقدمة لممارسة الاستبداد. فـ"التطرف" عند المستبدين ليس له تعريف محدد، بل هو مفهوم مائع يعمد المستبدون إلى تعويمه؛ بهدف ترك مجال التأويل واسعا، حتى تطال أيديهم الباطشة كل ذي فكرة حرة ورأي مختلف.
عبد الفتاح السيسي "أنجز" مهمته منذ تموز/ يوليو 2013، بل وقدم عرضا دمويا في رابعة وميدان التحرير وفي المعتقلات، فما الذي يقترحه على قيس سعيد؟ وما الذي سينقله عنه من تجربة وخبرة في "التصدي" لمن "لا يعترفون بالدولة"؟
قيس سعيد يتكلم دائما عن "الدولة" ويتكلم عن أطراف "لا تعترف بالدولة".
هذه "قرائن" تجعل جمهورا واسعا من التونسيين حتى من غير الإسلاميين، يتوجسون من أن يكون قيس سعيد قد "تلبسته" حالة التشهي الحرام، فيقترف محاولة فاشلة.
المشهد في تونس مختلف عما هو في
مصر، فالمؤسسة العسكرية لا تقبل بأي دور خارج مهامها المحددة منذ نشأتها، والقوات الأمنية تتعافى وتتجه نحو عقيدة الأمن الجمهوري، والمسار الديمقراطي في تونس يترسخ والبرلمان هو مدار العملية السياسية، فالشعب التونسي الذي تنفس بعمق في أجواء الحرية، لن يسمح بعودة الاستبداد.
لا شك في أن التونسيين جميعا يباركون كل تقارب بين الدول العربية؛ الدول بما هي مؤسسات وشعوب جغرافيا، لا بما هي أنظمة حكم وأشخاص هم زائلون. كل تقارب من أجل الوحدة والتضامن هي مباركة ومحل إشادة وترحيب، ولكن الذي يخشاه الناس هي "لعبة المحاور" حين يكون التقارب لا لمصلحة الشعوب، وإنما ضمن حالة الاصطفاف الإقليمي بما يجعل - وقد جعل - أوطاننا مساحات لتصارع قوى خارجية لها مصالحها ومصالح شعوبها، ولا تتعامل معنا إلا كأدوات تستعملنا لتحسين شروط التفاوض وتنمية نصيبها في ثرواتنا محل النزاع والتسابق.
twitter.com/bahriarfaoui1