كشفت في مقالات سابقة واقعة بسيطة في ظاهرها عميقة في دلالاتها ونتائجها؛ هي فكرة انزياح القاعدة الناخبة لنبيل القروي في انتخابات 2019 وانتقالها بشكل كلي وراء
قيس سعيد؛ الذي صار فجأة رئيسا تقدميا بعد أن كان داعشيا دسه حزب
النهضة في قائمة المتقدمين للمنصب.
وأكمل الصديق المفكر عادل بن عبد الله في "عربي21" توضيح الفكرة الرديفة، وهي تغيير قيس سعيد - تبعا لهوى جمهوره الجديد - برنامجه الرئاسي من محاربة الفساد إلى محاربة الإسلاميين، بحيث عاد الرئيس بتأثير من جمهوره إلى نقطة الصفر التي غرقت فيها الثورة
التونسية منذ يومها الأول: الحرب
الاستئصالية ضد الإسلاميين. وكانت نضالات النخبة التونسية قد استنزفت داخلها لمدة ثلث قرن حتى فاجأتها الثورة من خارجها.
إنه الدوران في الحلقة المفرغة، فليس لجمهور الرئيس من مشروع إلا مشروع الاستئصال، ومنه يأتي رفضه إكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بعد أن رفض أداء اليمين لوزراء في حكومة يدعمها حزب النهضة الإسلامي. وبخلق وضع العطالة التام في البلد يدفع الرئيس إلى إفشال كل مسار الانتقال الديمقراطي الذي يسمح للإسلاميين بالبقاء والمشاركة ولو من موقع ثانوي، فالمطلوب هو إعدام الحزب وإخراجه من المشهد على طريقة ابن علي الذي خدم الاستئصاليين بكل إخلاص، ودمر البلد واحتمالات
الديمقراطية التي تبلورت في عقد الثمانينات وكانت تعد بتحول جذري أجهضه الاستئصاليون، أو "حزب فرنسا" كما يجب أن يسمى بدون مواربة أو تقية.
خطوات إلى الوراء
مشروع مقاومة الفساد ومطاردة الفاسدين مشروع الشعب التونسي العميق، لذلك منح ثقته لمن رفعه من أحزاب وشخصيات وانتظر النتائج على الأرض، لكن رافعي الشعار كشفوا ادعاءهم بسرعة، فإذا الفساد يحصر في حزب النهضة، كأنه لم يكن قبله ولن يكون بعده، وفيما يسرح الفاسدون ويمرحون، يُتهم حزب النهضة بحمايتهم دون تقديم دليل.
فقد الجمهور الواسع ثقته في من زعم مقاومة الفساد بعد سنوات من رفع الشعار. لقد انتظر هذا الجمهور أن يقدم شخص مثل محمد عبدو ملفا واحدا للقضاء يتهم فيه قياديا من النهضة فلم يفعل، وبقي الحديث في وسائل الإعلام في محاولة بائسة لصنع رأي عام معاد للحزب. ومع تقدم الوقت انكشف للجمهور المترقب والمتفائل أن مقاومي الفساد والغون فيه ويحمونه ويتهمون غيرهم بذلك، فسقوط حكومة الفخفاخ كشف الكثير.
ويعتبر تحول الرئيس من مشروع محاربة الفساد (وهو ذريعة موقفه من حكومة المشيشي) إلى مشروع الحرب على الإسلاميين كشفا آخر عن كذبة مقاومة الفساد الذي ترعاه النهضة. لقد عاد الرئيس إلى مشروع ابن علي بكل بساطة وبوقاحة يحسده عليها ابن علي الذي لم يستعمل المسجد لبث خطاب التفريق والكراهية. لقد خطب قيس سعيد من داخل المسجد الأعظم ليفرق بين مسلمين وإسلاميين بخلفية تكفيرية تنفي عن الإسلاميين إيمانهم. وهكذا عاد بالبلد إلى نقطة الصفر، لكنه لن يتوقف عند ذلك، فهناك خطة تتجلى وستجر البلد إلى الحضيض السياسي وتسيل دماء بريئة في القريب المرئي.
خطة تنفذ على مراحل ثلاث متتابعة
طرح الإعلامي التونسي المهاجر محمد كريشان سؤالا حائرا عما يريده الرئيس، وقد جاءت الإجابة بسرعة: إنه يريد ما تريده فرنسا، إغراق تونس وتجربتها الديمقراطية الوليدة في الدم، والدم الإسلامي بالتحديد، وفي أفق تمت تجربته ولم ينتج الديمقراطية بل أنتج الخراب.
المرحلة الأولى كانت بمنع وصول الفائز في الانتخابات من قيادة المرحلة بفرض حكومة الرئيس، عوضا عن حكومة تقوم على نتيجة الصندوق. وقد نفذت بنجاح إسقاط حكومة الجملي وفرض حكومة الفخفاخ، لكن حكومته لم تصمد لما شابها من فساد. لم يربح أحد من العام الأول من الانتخابات فاستعاد الرئيس المبادرة بالقوة وعين على هواه، لكن الأمر أفلت من يده بمناورة المكلف وفرضه حدود سلطاته كرئيس حكومة مستقل عن الرئيس ورغباته، وبالأحرى رغبات حزامه الجديد. فأمعن الأخير في تعطيل الحكومة، وبعد أقل من شهرين انكشف خطابه عن نوايا استئصالية تدعمت بالحرب في البرلمان ضد رئيسه (بعرائض سحب الثقة)، فكانت حربا على جبهتين؛ نتج عنها تعطل كلي للمؤسسات ودخلنا في مرحلة ثانية تمهد لما هو أشد وأنكى.
في المرحلة الثانية استولى الرئيس بشكل أحادي على تأويل الدستور في غياب المحكمة الدستورية، رافضا الاستماع إلى كل رأي مخالف يرى غير ما يراه، بما في ذلك آراء أساتذته. ووصل به الأمر إلى محاولة السيطرة على سلطة الحكومة على الجهاز الأمني، جاعلا منه حلقة تدور في فلكه. وفي كل ذلك كان يرمي إلى اتهام جهات لا يسميها بالفساد والتآمر وبلغة تكفيرية. وردد في مفاصل كثيرة من خطابه جملا ومعاني طالما استعملها السيد محمد عبو، مستشاره غير الرسمي والذي يبدو أنه يوحي إليه من وراء ستار بعد أن فشل في توليف ملفات فساد تجر حزب النهضة وبعض قياداته إلى المحاكم.
لكن يبدو من الخطاب العدواني تجاه الحزب أن الرئيس قد تقدم في هذا الطريق، مستعينا بأصابع له داخل جهاز القضاء. ونحن نشهد الآن اكتمال المرحلة الثانية، ومن علامات ذلك الحديث المكرر عن ثروة الغنوشي وغموض مصادرها. وستكون نهاية المرحلة الثانية الشروع في جر قيادات نهضوية أمام المحاكم وانتظار رد فعل متوتر من قواعد الحزب سيستعملها لاحقا لاستعادة تهم الإرهاب، وقد انحاز له الجهاز الإعلامي المعادي للثورة وللانتقال الديمقراطي، وهو يستغل الآن بكفاءة عالية خلق رأي عام معاد في الظاهر للنهضة (الفاسدة والإرهابية) وفي الباطن للثورة ومنجزاتها، ليعمم في المرحلة الثالثة حربه على الحزب عبر دفعه إلى فعل غير قانوني يخرجه من العمل السياسي المشروع ويسمح بحله ومنعه من كل نشاط، سيرا على خطى ابن علي الذي أجهز على النهضة ثم عرّج على بقية المعارضة، فأعدم الحياة السياسية وحكم وحده وعلى هواه.
السؤال الآن هل يفلح الرئيس في حربه؟
يملك الرئيس الكثير من عناصر القوة، ولا نتحدث عن قوة الحق، فالحزام الاستئصالي لابن علي من شخصيات وأجهزة إعلامية يقف في صفه ويدفعه إلى المزيد من التوتير. ونرجح أن في الأجهزة الأمنية من يشاطره الموقف ويماشيه في حربه، وهو يحظى خاصة بعد زيارته لمصر بحزام دولي استئصالي تقوده فرنسا والإمارات ويوجهه العسكري المصري (شقيقه الجديد).
المزايدة على فشل الحكومة الحالية (التي عطلها) خاصة في حربها على الوباء أنتجت رأيا عاما مساندا له ويراه نظيف اليد بعد. ويبدو أن ارتباك الحكومة واضطراب قراراتها يصب في صالحه، كما توجد فئات كثيرة لا تساند الرئيس جهرة ولكنها تنتظر أن يصطاد في سلتها كما انتظرت ابن علي أن يزيح الإسلاميين من طريقهم طمعا في منحة ما بعد الإسلاميين. وقد بدأت بياناتهم في الصدور، ونخص منهم السيد نجيب الشابي.
في المقابل يكثر الحديث غير المسنود بأدلة عن وجود موقف دولي مساند للتجربة الديمقراطية، ويسعى إلى إنجاحها ولو بالحد الأدنى من العمل المؤسساتي في الداخل. لكن هذا الحديث لم تظهر فعاليته بعد في تعديل غلواء الرئيس وحزامه الاستئصالي، والرئيس لا يرتدع ولا يخشى الذهاب إلى آخر الشوط في مشروعه الجديد، بما يجعل منه حديث أماني الهاربين أمام الرئيس الباحثين عن حل من الخارج وقد أعجزهم الحسم في الداخل. إننا نرى الهاربين وفي مقدمتهم حزب النهضة الذي يجتنب المواجهة لأسباب تخصه؛ نرجح أن منها عدم براءة بعض قياداته من تهم الفساد.
معركة قادمة تطابق في مقدماتها وحججها وحيثياتها حرب ابن علي ضد النهضة عام 1990 وما تلاه. نفس اللغة الاستئصالية ونفس الأهداف ونفس الجهات المحرضة، من أجل تونس بلا إسلاميين ولو حل الخراب. الفارق الوحيد أن قيس سعيد ليس ابن علي، لا من حيث الجرأة ولا من حيث التصميم. فالرجل الذي جاء إلى المنصب بلا مشروع وتبنى مشروعا غير ما أعلن لا يملك في تقديرنا أن يتمسك بفكرة واحدة إذا تعرض إلى حد أدنى من الضغط الشارعي، أما إذا كان هناك فعلا من يدعم التجربة الديمقراطية من خارجها فإننا سنشهد سقوطا سياسيا وأخلاقيا مدويا لكل المشروع الاستئصالي، لكن وجب أن نقول بصوت عال نعتبره معركة الحرية الأخيرة في تونس: الشارع وحده من يحمي الحرية التي دُفع فيها ثمن غال.