نفرد
الإسلاميين بالتفكير لأنهم القوة السياسية الأطول عمرا في الساحات
السياسية العربية المختلفة، وهم الأكثر عددا رغم المجازر التي تعرضوا لها. ولا
نطرح السؤال عن مصير التيار القومي واليسار العربي لأننا يقنا بعد
الربيع العربي
وبفضله أنهم قوى ضعيفة العدد وقد صارت فعلا جزءا من منظومات الحكم، ولذلك فهي تحتال
للسياسة بغير وسائل
الديمقراطية فهذه المجموعات باقية بحجمها الضئيل ما بقيت
الأنظمة العربية القائمة الآن. أما الإسلاميون فقوة في الشارع لم يمكن محوها منذ
قرن إذا بدأنا حساب الزمن من نشأة تيار الإخوان المسلمين. لكن هذه القوة لم تحظ
بفرصة حكم رغم حماسها ومشاركتها في الربيع العربي، وقد عادت الآن إلى موقعها
القديم تيارا مطاردا يناضل فقط لإطلاق سراح مساجينه من السجون العربية.
استعادة المواقع قبل الربيع
يوجد الآن تيار مؤثر في الإعلام العربي وفي مواقع التأثير السياسي يحمل
الأحزاب الإسلامية كل مسؤولية فشل الربيع العربي، وهو من القوة بحيث جعل كثيرا من
الإسلاميين يقبلون هذا الاتهام على أنفسهم. هذا التيار القوي لا يركز، بل يغيّب
عامدا دور منظومات الحكم السابقة على الربيع العربي وملاحقها من اليسار والقوميين،
في ما يمكن وصفه بالردة عن مطالب الربيع وطموحاته إلى الديمقراطية وأهمها ترسيخ
الحريات العامة. ينتهي هذا التوريط في إنقاذ هذه المنظومات العائدة بصلف، والمنظومات
نفسها تسمح لمكونات هذا التيار من اليسار خاصة بالعودة إلى مواقعها التي حازتها
قبل الربيع، أي الاشتغال كأدوات تبرير للدكتاتورية مقابل نيل أعطياتها في الهوامش.
يوجد الآن تيار مؤثر في الإعلام العربي وفي مواقع التأثير السياسي يحمل الأحزاب الإسلامية كل مسؤولية فشل الربيع العربي، وهو من القوة بحيث جعل كثيرا من الإسلاميين يقبلون هذا الاتهام على أنفسهم. هذا التيار القوي لا يركز، بل يغيّب عامدا دور منظومات الحكم السابقة على الربيع العربي وملاحقها من اليسار والقوميين، في ما يمكن وصفه بالردة عن مطالب الربيع وطموحاته إلى الديمقراطية
لقد تغير الشكل الخارجي للمنظومات بعد الربيع لكن مكوناتها وأدوات القوة
لديها ظلت ثابتة، وقد ناورت بذكاء كبير لاستعادة السلطة وهي تواصل ممارسة الحكم
بنفس المنهج والتكتيكات، وأهم هذه التكتيكات فرز الإسلاميين ومطاردتهم بصفتهم
العدو الداخلي المفيد لتخويف الناس من الحرية والديمقراطية المنعوتة في إعلام
المنظومات بأنها بوابات الفشل والإضرار بالسيادة الوطنية.
كما أعادت منظومات الحكم بناء شبكة علاقاتها مع القوى الخارجية وقدمت طقوس
الولاء، بدءا من السير في طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني وحصلت ما يكفي من
التطمينات السياسية والمالية بالخصوص للبقاء في أماكنها. وقد عرّت حرب الطوفان هذا
الأمر، لكن الفضيحة لم تهز أركان هذه الأنظمة بل ثبتتها، بما زاد في قوتها في
اللحظة التي تشن فيه حرب إعلامية على الإسلاميين لصرف الاهتمام عن هذا الدور
المفضوح.
لكن السؤال عن مصير الإسلاميين لا يقف عند رؤيتهم في موقع الضحية الدائم
وهو موقع يحبه الكثير منهم لأنهم يبررون به عجزا داخليا. لقد كشف الربيع العربي
الإسلاميين أيضا، وأثبت أن ليس لديهم نظرية في السياسة تسمح لهم باختراق المنظومات
والحلول محلها. وفي رصيدهم السلبي إساءة التصرف في تفويض شعبي منحوه فبددوه.
هل يحل زمن المراجعات؟
لا يشارك هذا المقال في الحملة على الإسلاميين، لكنه ينطلق من دروس ثبتت
أو/و معطيات انكشفت. هشاشة التيار الإسلامي صارت معطى مكشوفا ونعني بالهشاشة عجزهم
عن ابتكار أسلوب حكم مقنع للناس الذين مالوا إليهم أول الربيع العربي، فظهر أنهم
لا يعرفون مجتمعاتهم وإن خرجوا من أرحامها ولا يعرفون كيفية اشتغال المنظومات وإن
عانوا من ويلاتها.
ونعتبر أن أكبر علامة على هذا الجهل هو اختيار الرئيس الإخواني محمد مرسي
لعبد الفتاح السيسي من كل قيادة الجيش المصري كوزير دفاع، إنه اختيار كاشف أن
التيار الإخواني كان يعيش على هامش الحكم وأن ليس له به علم رغم رسوخ التيار في
مصر، فهو سابق على الدولة الحديثة نفسها. إنها الغفلة التي ضيعت أصحابها، والجهل
بالمؤسسة العسكرية يدعمه الجهل بقوة الإعلام والذي لم يكلفه الإجهاز على الإخوان
وتجربتهم إلا بعض اللغو التلفزيوني.
ماذا كان يفعل الإخوان قبل الربيع العربي؟ التبرير بالملاحقة والقمع لا
يكفي لدحض غياب مشروع سياسي لفهم الدولة وطريق عمل الأجهزة وكيفية بناء التحالفات
في الخارج والداخل. ونعتقد الآن بعد فشل التجربة أن مكونات هذا التيار في كل
الأقطار لم تفكر يوما إنها يمكن أن تصل إلى الحكم، وأنها أبَّدت في عقلها الباطن
وضع المعارض المقموع حتى طاب لها. هل سيؤدي هذا إلى وعي جديد ينعكس على الأساليب
والأطروحات بما يفضي إلى تأسيس جديد؟
الانسحاب الشجاع
يزدهر قول كثير عن سقوط الكيان وفقدان الأنظمة الوظيفية لدورها في حمايته،
وهو الدور الذي عاشت منه وحكمت به وقمعت الإسلاميين، الآباء الروحيين لحماس
والجهاد. وتغفل هذه المقالات قدرة الأنظمة المحلية القمعية ومنظومات الهيمنة الخارجية
على الابتكار والتجديد في أشكال الحكم دون الاستعانة بالإسلاميين، بل بإقصائهم
ابتداء.
غني عن القول هنا أنه طيلة حرب الطوفان لم يحرك الإسلاميون شوارعهم في
الأقطار نصرة لغزة بحجة القمع المسلط عليهم، مما وضعهم في نفس خانة اليسار
والأنظمة المعادية لغزة، فالدعاء لم يكف للنجدة.
نجدة الإسلاميين في الأقطار لن تأتيهم من
غزة، هذا يقين، فإذا لم يغيروا
فكرهم وأساليب عملهم في أقطارهم فهم ذاهبون إلى نهاية لا شك فيها، لكن ما هو
المطلوب منهم؟
نظن يقينا أن المطلوب من الإسلاميين أن لا يكونوا إسلاميين بعد فشل الربيع
العربي، وأن يحلوا في أجسام أخرى لا تنشغل بأسلمة مجتمع مسلم وخاصة أن ينسوا هذه
المهمة الرسولية التي كلفوا بها أنفسهم منذ قرن. لدينا يقين أن الشعوب العربية
والمسلمة لن تزداد إسلاما عن طريق الإسلاميين، ويكفي أن نحسب عدد المصلين في أي
مسجد عربي لنعرف أن عدد المصلين لا يزداد ولا ينقص تحت تأثير الإسلاميين، فهل
يتحول الإسلاميون إلى تيار ديمقراطي عربي يضع الحريات على قائمة أولوياته؟
يوجد الآن تيار مؤثر في الإعلام العربي وفي مواقع التأثير السياسي يحمل الأحزاب الإسلامية كل مسؤولية فشل الربيع العربي، وهو من القوة بحيث جعل كثيرا من الإسلاميين يقبلون هذا الاتهام على أنفسهم. هذا التيار القوي لا يركز، بل يغيّب عامدا دور منظومات الحكم السابقة على الربيع العربي وملاحقها من اليسار والقوميين، في ما يمكن وصفه بالردة عن مطالب الربيع وطموحاته إلى الديمقراطية
ما نوع الديمقراطية المطلوبة؟
كيف يختفي الفرد الإسلامي المصنف سياسيا ليعود بهوية أخرى ديمقراطية؟ ألن
يفهم الاختفاء والعودة كمناورة مكشوفة تخفي/ تكشف احتقار الجمهور؟ هل منظومات
الهيمنة من الغباء بحيث تصدق عودة مموهة بخطاب ديمقراطي؟
لقد ناور حزب النهضة في تونس بعملية فصل بين السياسي والدعوي فأعلن الشق
السياسي أنه حزب سياسي وليس حزبا إسلاميا، ولكن المناورة لم تُقبل منه وفُهمت
كخديعة سياسية، خاصة أن الجسم ظل متماسكا بشقيه ويظهر تماسكه في كل عملية انتخاب.
سنتحدث هنا عن أفق تحول إلى مشروع بناء الديمقراطية، وليس عن مجرد مناورة
في زمن محدود. ونعرف أنه من العسير على من تربى داخل مشروع إسلامي أن يتخلى عن
مشروع كيّف عقله وسلوكه، ولا نراه يجرؤ على طرح السؤال عن الجدوى من المشروع فشل
في الوصول إلى السلطة والتمسك بها بعد قرن من ولادته.
يبدأ هذا السؤال في ظننا من نقطة محددة وهي أسبقية الديمقراطية المشروطة
بالحرية، أي وضع الحريات كهدف أول للتحقيق دون ربطه بأي مشروع هوياتي فالحرية هوية
في ذاتها. على أن يظهر هذا السؤال في الخطاب وفي الممارسة، ومن ضمن ذلك التقدم
بشجاعة نحو مشروع اقتصادي ليبرالي يتخلى عن وهم الدولة الاجتماعية التي لا تزال
منظومات الحكم تتكاذب به على الشعوب. وضمنه يمكن بناء التحالفات الداخلية مع القوى
الاقتصادية الفاعلة التي انكشف رعبها من خطاب الإسلاميين الاجتماعي، وهو خطاب
مسروق من اليسار العربي السفيه.
ويمكن أن يسمح ذلك بإعادة موضعة هذا التيار (الليبرالي الجديد) في المشهد
الاقتصادي العالمي المعولم. هذا أفق تفكير لم تتضح لنا معالمه بعد، لذلك سنعود
إليه بشكل أعمق، لكن يقينا حاصل لدينا أن الإسلاميين بصفتهم الحالية انتهوا سياسيا،
ولم تبق لهم إلا مرحلة أخيرة من الألم في سجون الحكم العربي ستأتي على آخر قيادتهم
المعروفة.