ازدادت وتيرة الجلد لقنوات
المعارضة الثلاث على الأراضي التركية مؤخرا، وكثرت سكاكين المنتقدين الطاعنين في أدائها المهني بعد التقارب المزمع بين النظام
المصري وتركيا؛ وما بين مؤيد للنظام المصري ومعارض له، خرجت أصوات ترحب بإقصاء تلك القنوات من الساحة
الإعلامية من خلال وجهات نظر متباينة. فالفريق الأول يرى أنها أساءت لمصر ورموزها على مدار سنوات، بينما يرى الفريق الآخر أنها لم تقم بما يكفي لدفع المواطن المصري للثورة على جلاديه.
السعادة البالغة التي علت وجوه القوم، وإقامة الأفراح والليالي الملاح على مدار أيام في قنوات الليل المصرية، احتفاء بالتقارب الذي سيعيد القابعين في إسطنبول مقرنين في الأصفاد إلى القاهرة، يشي بما يعانيه هؤلاء من آثار نفسية بالغة السوء بسبب هذه الوجوه الإعلامية ذات الإمكانات الضعيفة، والتي حظيت بثقة المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج، لتسحب البساط من تحت أقدام ذوي الرواتب المليونية والإمكانات غير المحدودة.
وبينما يرى البعض أن تلك القنوات فشلت في إيصال رسالتها الإعلامية، إلا أن مشاهدات البث الحي لبرامج بعينها على موقعي يوتيوب وفيسبوك والتي تقدر بعشرات الآلاف، تشير بقوة إلى الشعبية الكبيرة والجمهور العريض الذي استقطبته، رغم قلة إمكاناتها التي لا يمكن مقارنتها بالترسانة الإعلامية التي يمتلكها النظام، إلا من زاوية السباق المحتدم بين سيارة فيراري حديثة تصل إلى سرعتها القصوى خلال ثوان معدودة، وأخرى من إنتاج سبعينات القرن الماضي تحتاج إلى تغيير البطارية، ويضطر سائقها إلى الاستعانة بمن يدفعها معه حتى تتحرك ويواصل السير إلى وجهته المنشودة.
مشاهدات البث الحي لبرامج بعينها على موقعي يوتيوب وفيسبوك والتي تقدر بعشرات الآلاف، تشير بقوة إلى الشعبية الكبيرة والجمهور العريض الذي استقطبته، رغم قلة إمكاناتها التي لا يمكن مقارنتها بالترسانة الإعلامية التي يمتلكها النظام
أرى من الإنصاف الإشارة إلى أن القنوات الثلاث كان لها دور بارز في تقديم الرأي الآخر للمشاهد، في ظل استقطاب حاد في المجتمع المصري، وقمع غير مسبوق لا يسمح لطرف بعينه في التعبير عن وجهة نظره إلا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المراقبة باستمرار، وذلك بعد تأميم السواد الأعظم من القنوات الفضائية لصالح المحور المناوئ لثورات الربيع العربي، والمحارب لكل من يتحدث عن الحرية، بسبب حساسيته المفرطة من الانتخابات وتداول السلطة.
قد يحلو للبعض تقييم المحتوى الإعلامي لتلك القنوات من خلال ما يحرزه الحراك الشعبي بمصر من تقدم، أو حلحلة قضايا وملفات بعينها كملف الأسرى والمعتقلين، لكن الإعلام غير مسؤول عن تثوير الشعب وإنما يكمن دوره بالأساس في عملية التنوير، من خلال محاولة الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة ورفع الوعي الجمعي لدى هؤلاء، حتى لا تنساق الجماهير وراء وجهة نظر أحادية الجانب تمت صياغتها خارجيا، وتكييفها لتناسب فئة محددة من ذوي المصلحة في الداخل، بما يجعل من كلفة العودة إلى المسار الصحيح باهظه الثمن، بعد إهدار مقدرات الوطن في مقابل تفاهمات ومواءمات تحقق مصالح نخبة بعينها، ولا ناقة للمواطن فيها ولا جمل.
لا شك أن المهنية مطلوبة، وأن القنوات الثلاث تحتاج إلى شيء من ضبط المحتوى؛ لكن هذا لا يمكن مقارنته بما يحدث من بلطجة إعلامية في قنوات النظام، التي تلصق كل نقيصة بمن ينتقد أداء الجنرالات، ولا تتورع عن الخوض في الأعراض لإيقاف كل من تسول له نفسه الدعوة إلى الحرية والكرامة الإنسانية، ولا يردعها عن الإجرام في حق الوطن والمواطنين أخلاق مهنية أو ضوابط قانونية.
أتساءل حقيقة عن الأوراق التي تملكها مصر للضغط على تركيا، والتي يجب أن تذعن بموجبها لجميع مطالب العسكر وكأنها دولة مسلوبة الإرادة، أو محاصرة دوليا وتبحث عمن يخرجها من عزلتها
وبالعودة إلى معطيات الواقع، تتملكني الدهشة وأقف متعجبا من الثقة التي يتحدث بها إعلاميو النظام، والتي تشعر معها أن أردوغان يجلس متسمرا بجانب الهاتف منتظرا مكالمة من الجنرال يتعطف فيها عليه ويقبل إعادة العلاقات إلى سابق عهدها، ليذهب بعضهم إلى تقديم لائحة بعشرة مطالب يتعين على أنقرة تنفيذها قبل المضي قدما في أي تفاهمات معها. وأنا أتساءل حقيقة عن الأوراق التي تملكها مصر للضغط على
تركيا، والتي يجب أن تذعن بموجبها لجميع مطالب العسكر وكأنها دولة مسلوبة الإرادة، أو محاصرة دوليا وتبحث عمن يخرجها من عزلتها، لتجد ضالتها في الجنرال الذي يتمتع بسمعة دولية طيبة بعد حصوله على 97 في المائة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
تبدو المساومة على إغلاق تلك القنوات أو تغيير محتواها غير منطقية بالمرة؛ فهناك عشرات القنوات التي أطلقت خصيصا لقصف تركيا وتشويه صورة المعارضة المصرية في الخارج، بتمويل مباشر من الإمارات، وليس بمقدور
السيسي وجنرالاته في المقابل تغيير سياسة هذه القنوات أو إغلاقها، لأن القرار يأتي من أبو ظبي، بعد إعادة ضبط بوصلة الإعلام وتوجيهه عبر الأجهزة السيادية التي تدير المشهد حاليا، وعلى رأسها اللواء والعقيد، في ما يشبه الردة إلى الحقبة الناصرية، وإن اختلفت طبقات الصوت لتظهر بشكل مغاير لأداء أحمد سعيد - صاحب صوت العرب - وتغيرت الوجوه من شباب تعلو وجوههم ابتسامة قد تمنحهم قبولا إلى شيوخ يكسو رؤوسهم الشيب فيبدون أكثر وقارا، إلا أن الرسالة التي تقدمها هذه القنوات واحدة، ومصدرها واحد هو نفس جهاز "السامسونج".
أكثر ما يؤلمني حقيقة هو وضع العاملين بتلك القنوات، والذين لا يتلقون رواتب تذكر، ويعيشون ظروفا صعبة، في ظل محاربة النظام لهم، والتنكيل بهم من خلال الزج بأسمائهم في قضايا ملفقة، بل يعاني معظمهم تعنتا كبيرا وحصارا شديدا بسبب رفض الممثليات المصرية في الخارج تجديد جوازات سفرهم، أو منحهم أوراقا ثبوتية لأبنائهم المولودين في الخارج، ما يجعلهم دائمي التفكير في محاولة توفيق أوضاعهم.
التفكير في إيجاد خيارات بديلة يعد أمرا ملحا في الوقت الراهن؛ وقد يكون تغيير الوجهة مفيدا لانطلاقة جديدة ربما تكون أقوى تأثيرا وأبعد انتشارا من خلال إعادة التموضع في دولة أوروبية، لتخفيف الضغط على الجانب التركي
ولذلك فإن التفكير في إيجاد خيارات بديلة يعد أمرا ملحا في الوقت الراهن؛ وقد يكون تغيير الوجهة مفيدا لانطلاقة جديدة ربما تكون أقوى تأثيرا وأبعد انتشارا من خلال إعادة التموضع في دولة أوروبية، لتخفيف الضغط على الجانب التركي -الذي تحمل الكثير ولا يجب إحراجه أكثر من ذلك - وتوفير مساحة أكبر من الاستقرار تدفع إلى مزيد من العمل النوعي والإنتاج. فالدول محكومة بتوازنات إقليمية ودولية، وقد تتطابق رؤاها أو تتنافر في وقت ما، ولا تحكمها الالتزامات الأخلاقية التي يحتكم إليها الأفراد، وإنما ترضخ إلى منطق المصلحة الوطنية في النهاية.
مصر بلا شك دولة كبيرة الحجم وذات ثقل سياسي كبير في المنطقة - سواء أدرك الجنرالات ذلك أم تناسوه - وهو ما يتطلب التعامل معها من هذا المنطلق، بعيدا عن المناكفات السياسية التي تجري بتوجيه من دول تبحث عن مكانة لا تستحقها بالنظر إلى موقعها الجيوسياسي على الخارطة الدولية. لكن مشكلة نظام الجنرالات تكمن في عقدة النقص التي تدفعه إلى السعي الحثيث لإبقاء تلك التبعية؛ من خلال تزييف الوعي بعد سيطرته على الإعلام والدراما، وتوجيه الرأي العام بما يتوافق مع وجهة نظره الأحادية لأمور مصيرية، متخيلا أن إغلاق قنوات الخارج قد يريحه من معول صلب يهدم ما يبنيه، وصوت قوي يبدد ما تبثه وسائل إعلامه من ترهات؛ ولا يدري أن الخرق قد اتسع على الراتق، وأن الفضاء الإلكتروني أرحب وأوسع، وأكثر قبولا من جيل جديد ولد وفي يده هاتف ذكي.