قضايا وآراء

على وقع محاكمات التيك توك في تونس: في الأخلاق معيارا ومصدرا (1-2)

بحري العرفاوي
- الأناضول
- الأناضول
1- ما الأخلاق؟

الأخلاق هي حكم معياري على الممارسات أفعالا وأقوالا ومظاهر، كقولنا هذا حسَن وهذا سيئ، وهذا جميل وهذا قبيح (جمال وقبح خُلُقيان لا خِلقيان)، تلك الأحكام الأخلاقية متعلقة بأفعال العباد أي بما هو مكتَسَبٌ منهم لا بما هو خِلقي فيهم.

2- ما هي مصادر الأخلاق؟

هناك مصادر أربعة للأخلاق:

أولا: الأديان: وهي المصدر الأول للأخلاق بالنسبة لأتباع الأديان السماوية، فالأخلاق جزء من الأوامر والنواهي الشرعية، والمؤمن يستمد حكمه على الأشياء والأفعال من تعاليم عقيدته بقطع النظر عن مدى التزامه هو بها أو ابتعاده عنها، فهو يعتبر أن الدين هو الذي يحدد الحُسن والقبح، ولا تعارض في ذلك مع من يقول إن العقل هو الذي يُحوّل معايير الشرع إلى معايير معقولة حين يستوعبُها ويقتنع بها فتتحول من معتقدات الى معقولات.

ثانيا: الفلسفة: لقد اشتغل فلاسفة كثيرون على الأخلاق غير معتمدين لا على أديان ولا على تقاليد، وإنما على جهد عقلي يربط الأخلاق بالمنفعة وباللذة أو بالمصلحة أو بالجدوى أو بالقوة أو بالجمال وبالعدالة، ومن الفلاسفة من انتقد أخلاق العبيد وأخلاق الضعفاء وأخلاق رأس المال. ورغم اختلاف التعريفات فإن الأخلاق ظلت مبحثا مشتركا بين مختلف المدارس الفلسفية.
تكريم الإنسان لم يكن تكريما بالتشريعات فقط، فتلك التشريعات لها مقاصدها التي تتحقق بوعي الناس أو بسلطة أولي الأمر، إنما التكريم هنا هو بما أودعه الخالق في الإنسان من لطائف وقيم وانجذابات خِلقية نحو عوالم الكمال والجمال والحق والحقيقة والعدالة

ثالثا: العُرف: أي ما تعارف عليه الناس حتى أصبح أشبه ما يكون بقانون يلتزمه الجميع تلقائيا، ويحاسبون كل من يخرج عن العرف سواء بالمقاطعة أو بالتعزير أو حتى بالزجر المادي. فالعرف مصدر مهم في تحديد ما هو حَسن وما هو قبيح، ولذلك نجد أن كلمة "عيب" لا تحتاج إعادة تعريف ولا شرحا وتفصيلا، فهي عبارة جامعة وهي مفهوم واضح لدى مجموعة بشرية لها تقاليدها وأعرافها.

رابعا: الفطرة: ولعلها هي مصدر كل المصادر، فالدين والفلسفة والعرف عادة لا تعارض بينها وبين الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، فطرة تميل الى الخير والجمال والى العدل، وتكره الشر والقبح والظلم.

إن من يعتمد على فطرته لا يمكن إلا أن يكون شخصا سويّا ولا يمكن إلا أن ينجذب الى عوالم الجمال والحب والعدل، ولذلك فإن فلاسفة كثيرين اعتمادا على عقولهم وفطرتهم انتهوا الى حقائق وقيم هي نفسها التي جاء بها الأنبياء والرسل. ولذلك أيضا نجد أناسا لم تتشوه فطرتهم ينطقون بالحكمة ويقولون من المعاني ما ينسجم مع تعاليم الدين دون أن يكونوا اطلعوا لا على دين ولا على فلسفة، وإنما فقط لأنهم ظلوا أقرب إلى فطرتهم السليمة.

وفي القرآن الكريم نجد هذا المعنى، أي فِطريّة الأخلاق، في قصة آدم عليه السلام وزوجته حين بَدَت لهما سوءاتُهما بعد أكلهما من الشجرة المحرمة خضوعا لإغراءاتِ الشيطان ومعصيةً لنهي الله بعدم الاقتراب منها، "وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة"، إنها الفِطرة السوية تحركت فيهما فإذا بهما يشعران بالحياء فيسارعان إلى مواراة سوءاتِهما بورق من "الجنة"، جنة الكمال الإنساني، حيث القيم والأخلاق والجمال والحياءُ، لم يكن ثمة بشرٌ يخجلون منه ساعتها، إنما كان ثمة جوهر إنساني صميم كامنٌ فيهما، إنها الكرامة الإنسانية التي أنشأهما الله تعالى عليها.

إن تكريم الإنسان لم يكن تكريما بالتشريعات فقط، فتلك التشريعات لها مقاصدها التي تتحقق بوعي الناس أو بسلطة أولي الأمر، إنما التكريم هنا هو بما أودعه الخالق في الإنسان من لطائف وقيم وانجذابات خِلقية نحو عوالم الكمال والجمال والحق والحقيقة والعدالة، إنها لطائفُ مما وهب الخالق لعبده كي يكون إنسانا متمايزا عمن سواه من الكائنات: ".. وفضّلناه على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا".

3- سلطة الأخلاق وأخلاق السلطة

أولا: سلطة الأخلاق

الأخلاق هي روح الحضارة الإنسانية، وهي كساؤها الجميل وهي كيمياء العمران البشري، إنها مصدر الأمان والطمأنينة وثقة الناس ببعضهم، وذاك دافع على التفاؤل والعمل للمستقبل دون خوف ودون يأس.

الأخلاق ليست هي المعايير الأخلاقية النظرية، إنما هي الالتزام السلوكي والتمثل العملي لمعاني الخير والفضيلة ولصفات التواضع والكبرياء والتسامح والشجاعة والعدل والقوة.

الأخلاق بهذا المعنى تتحول إلى سلطة ذاتية تضبط سلوك صاحبها ومواقفه وردود فعله وتتحكم في انفعالاته وغرائزه وأهوائه، إنها سلطة الوعي وسلطة الإرادة وسلطة الاختيار، ليست سلطة من خارج الذات لأن الأخلاق لا تُفرض بالقوة، فالقوة يمكن أن تفرض سلوكا معينا يبدو فيه انضباط واستقامة، ولكنه سلوك لا ينبع من الذات فلا يكون أصحابُه إلا منفصمي الشخصية يعانون اغترابا عن ذواتهم؛ إذ أنهم يفعلون ما لا يعتقدونه وما لا يجدون لذة في فعله.

إن الإكراه والإخضاع لا يُنتجان الا ذواتٍ مهشّمة تُوصف أخلاقيا منافقة، السلطة الحاكمة لا تستطيع فرض الأخلاق إنما يمكنها فرض "الانضباط" بواسطة ما لديها من أدوات الردع والقهر.

الأخلاق مصدر هيبة ووقار تجلب لصاحبها التقدير فلا يكون بحاجة الى سلطة سياسية ولا الى سلطة مال كي يحظى باحترام الناس، إن الأخلاق هي سلطة بذاتها، إنها سلطة القيم والفضائل التي تجد مقبولية لدى كل فطرة سليمة، وحتى من انحرفوا سلوكيا فإنهم ينظرون لذوي الاستقامة بكل تقدير واحترام، وهذه السلطة، سلطة الأخلاق، لا يحظى بها ذو النفوذ المادي، نفوذ المال والحكم، بل عكس ذلك، إن كثيرا من ذوي المال والسلطان ليس لهم في قلوب الناس وأعينهم إلا الاحتقار وحتى الكراهية بسبب ما يُبدونه من تكبر وتعال وعجرفة. وفي الحديث الشريف: "إنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم فسَعُوهم بأخلاقكم".

ثانيا: أخلاق السلطة

ما من سلطة إلا وتعتمد خطابا أخلاقيا مناسبا لوضعها التحكُّمي، فهي تحرص على توظيف الدين والأخلاق والأدب والإعلام ومختلف "الأدوات" لضمان استمراريتها ولمنع بوادر الاحتجاج عليها أو الثورة ضدها، فالسلطة لا تنظر للظواهر الاجتماعية بمعايير أخلاقية مجردة أي بمعايير الأخلاق لذاتها، وإنما تنظر إليها وفق معايير "أمنية" في علاقة بالوضعية التحكمية لا بالتكليف التحكيمي.

إن الخير والشر لا ينبعان من الأفعال ذاتها، وإنما هما من انعكاسات رغبة السلطة في المنع أو الاباحة بما يخدم استمرارها.

قد تكون ثمة سلطة تتبنى وجهة نظر في الأخلاق انطلاقا من عقيدة دينية أو من رؤية فلسفية، تلك السلطة لن تتحرر من هاجس التآمر عليها ومن رغبتها في ضمان قدر عال من الاستقرار بما هو وضع مريح في التحكم.

تلك السلطة ذات المبدأ الأخلاقي الديني أو الفلسفي، يمكنها ترك مجال فعل النخب الفكرية والأدبية والدينية في مجال الأخلاق فهم الأقدر والأكثر مصداقية حين يتكلمون في القيم، ما لم يتبيّن أنهم يوظفونها حزبيا أو سياسيا أو أيديولوجيا.
نزوع أي سلطة نحو القوة لفرض القيم وبسط الأخلاق ينتهي دائما الى حالة تمرد على تلك القيم والأخلاق، فالفطرة السوية ترفض الإكراه حتى على الدواء وترفض الخضوع حتى للرسل والأنبياء إذا ما وجدت أنها تخسر كرامتها وحريتها للحصول على صفة أخلاقية أو صفة دينية

إن أي سلطة لا يُنظَر إلى حملاتها الأخلاقية إلا ضمن مخططاتها السياسية أي التحكمية، وليس ضمن عقيدة أخلاقية تسعى إلى الفضيلة وإلى الخير في ذاته.

انخراط أي سلطة في "معركة الأخلاق" يُعيق عمل "الأخلاقيين" بسبب ما ينتاب الناس من سوء توظيف السلطة للخطاب الأخلاقي، ومن سوء استخدام الأخلاقيين لخدمة اهداف سياسية محددة.

نزوع أي سلطة نحو القوة لفرض القيم وبسط الأخلاق ينتهي دائما الى حالة تمرد على تلك القيم والأخلاق، فالفطرة السوية ترفض الإكراه حتى على الدواء وترفض الخضوع حتى للرسل والأنبياء إذا ما وجدت أنها تخسر كرامتها وحريتها للحصول على صفة أخلاقية أو صفة دينية.

إن الأفكار والمعتقدات لا يمكن فرضهما بالقوة ولا انتزاعهما بالقوة، وما يبدو تسليما وخضوعا لتعليماتٍ دينية أو أخلاقية إنما هو حالات تكيّفٍ ظرفي يبديه المقهورون لتجنب الأذى بانتظار لحظات التمرد، وذاك "التكيف" إنما هو نفاق بالمعنى الأخلاقي والديني.

لذلك تعتمد الأديان على التذكير لا على السيطرة، التذكير بما هو مُودَع في الفطرة من قيم جميلة وحقائق كبرى ومبادئ سامية ومن لطافة حب وأشواق ورحمة: "إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، وتعتمد على المجادلة لا على الإخضاع: "وجادلهم بالتي هي أحسن"، ولذلك أيضا تقوم الفلسفة على الأسئلة وعلى الشك لا على التلقين والتقليد.

تاريخيا، هناك تجارب لأنظمة سياسية أرادت فرض رؤيتها للأخلاق وللدين بالقوة سواء في اللباس أو في السلوك، ولكنها اكتشفت أنها كانت بصدد صناعة جمهور من المعادين الذين لن يترددوا في التنكيل بها حين تفقد سلطتها.

يتبع..

x.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)