"أقل من واحد"، كانت تلك هي العبارة التي أطلقها
السيسي في بث مباشر على الهواء، والتي أحدثت موجة واسعة من الانتقادات المجتمعية داخل
مصر وخارجها، وتعجب الجميع من العبارة التي جاءت صادمة وغير منطقية بالنسبة للمصريين. وكان من الواضح أن السيسي يتعامل مع المعدلات الديموغرافية والمتغيرات السكانية بنفس منطق تعامله مع الطرق والكباري والإنشاءات الهندسية، حيث يأمر بسرعة التنفيذ، ويكون الرد بالطبع هو بالموافقة من القادة العسكريين.
وغابت عن السيسي ومن حوله، أن الحالة السكانية لها محددات مختلفة وتحكمها عوامل إنسانية وعاطفية ونفسية حاكمة، كما أن المشكلة السكانية لا تعني مجرد أرقام وإحصائيات لأعداد البشر، ولكنها قضية تشمل ثلاثة محاور أساسية؛ منها عجز النمو الاقتصادي عن ملاحقة الزيادة السكانية، بالإضافة إلى تدني الخصائص البشرية، واختلال التوزيع الجغرافي للسكان بالنسبة لإجمالي مساحة مصر.
غابت عن السيسي ومن حوله، أن الحالة السكانية لها محددات مختلفة وتحكمها عوامل إنسانية وعاطفية ونفسية حاكمة، كما أن المشكلة السكانية لا تعني مجرد أرقام وإحصائيات لأعداد البشر
ومن ناحية أخرى، فقد غاب عن المجتمع المصري أن السيسي يقصد بمقولته تلك، أن يعلن عن رغبته في خفض الزيادة السكانية في مصر، من خلال خفض معدل الخصوبة للسيدات إلى أقل من طفل واحد لكل سيدة، بدلا من المعدل الحالي وهو 3.4 طفل لكل سيدة. وجاء ذلك خلال تعليق السيسي على عرض وزيرة التخطيط لرسم بياني يعرض مخطط تطور معدل الخصوبة في أربع دول، هي مصر وإيران وكوريا الجنوبية وماليزيا، ويبدأ في عرض الأرقام بداية من عام 1960 وحتى عام 2018.
وفي حين جاءت رغبة السيسي شاذة وغير مدروسة، إلا أن الأغرب منها هو اختيار تلك الدول الثلاث تحديدا لوضعها في المقارنة مع مصر، لأن البدايات وإن كانت تحمل نفس الأرقام في معدلات الخصوبة عام 1960، وتتراوح بين 6.9 إلى 6.1 طفل لكل سيدة، إلا أن كل دولة منهم كانت لها ظروف وتداعيات مختلفة والأرقام اليوم مختلفة كثيرا، حيث بلغت مصر 3.4 ، وإيران 2، وماليزيا 2، في حين أن كوريا أقل من طفل واحد لكل سيدة، وهو الرقم الذي شد انتباه السيسي.
فبالنسبة إلى ماليزيا: في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2020، أوضح مدير مجموعة البنك الدولي في ماليزيا أن التركيبة السكانية الماليزية حاليا تواجه انخفاض معدل الخصوبة ومعدل المواليد، وأنه وفقا للمعايير الدولية فقد أصبحت ماليزيا مجتمعا مسنا، وأن الشيخوخة السريعة تعني أن الماليزيين عليهم أن يعملوا لمدة أطول، وذلك برفع سن التقاعد من العمل إلى 65 عاما بدلا من سن الستين.
وقد أظهرت إحصائيات رسمية أن عدد المواليد لدى الماليزيات من العرق الصيني في انخفاض، وهو مؤشر خطير وله عواقب سياسية واقتصادية مؤثرة في مستقبل المجموعة العرقية في ماليزيا. وفي تقرير جاء على هامش مؤتمر دولي عقد خلال شهر شباط/ فبراير الجاري في كوالالمبور حول "الشيخوخة.. الواقع والتحديات"، تمت الإشارة إلى أن ارتفاع نسبة الشيخوخة في المجتمع الماليزي يشكل تحديا للحكومة على صعيد توفير سبل الرعاية لكبار السن، ورصد احتياجاتهم، وتمكينهم من أداء دورهم في بناء الدولة، من خلال إدخال تحسينات على الآليات المتبعة في تنمية رأس المال البشري.
كوريا الجنوبية تعاني من الانهيار السكاني:
وكان غريبا أن تتم المقارنة بين معدل الخصوبة في مصر وكوريا الجنوبية التي تعاني من مشكلة الانهيار السكاني، حيث يتجنب الشباب الزواج وإنجاب الأطفال بسبب عوامل متعددة، بما في ذلك عوامل ثقافية واقتصادية.
كان غريبا أن تتم المقارنة بين معدل الخصوبة في مصر وكوريا الجنوبية التي تعاني من مشكلة الانهيار السكاني، حيث يتجنب الشباب الزواج وإنجاب الأطفال بسبب عوامل متعددة، بما في ذلك عوامل ثقافية واقتصادية
ووفقا لدراسة أجراها المعهد الكوري للصحة والشؤون الاجتماعية، ذكر الرجال والنساء غير المتزوجين "الظروف الاقتصادية" و"القيم الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالزواج"، على التوالي، باعتبارها السبب الرئيس لاختيارهم البقاء غير متزوجين. وهذا يعني أن مشكلة انخفاض عدد السكان في كوريا تعنبر مشكلة معقدة، تشمل التباطؤ الاقتصادي، وانخفاض عدد فرص العمل، وأعباء أسعار الإسكان، وعدم الكفاية في مرافق رعاية الأطفال، وغير ذلك.
أما النتيجة الأكثر خطورة لكل ذلك، فهي أن انخفاض عدد السكان في سن العمل سوف يشكل عبئا كبيرا على الاقتصاد والمجتمع. وقد أعلنت كوريا الجنوبية في 26 شباط/ فبراير 2020، أنها سجلت انخفاضا جديدا في معدل المواليد للعام الثاني على التوالي، وبذلك فإن كوريا الجنوبية تعاني من كارثة ديموغرافية، حيث يوجد فيها واحد من أطول معدلات الأعمار المتوقعة، وواحد من أقل معدلات المواليد.
وبالنسبة للدولة الثالثة وهي إيران؛ ففي شهر آب/ أغسطس 2020، سلطت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في تقرير لها؛ الضوء على المشكلة التي تواجه إيران وعزوف الكثير من الشباب عن الزواج، وانخفاض معدل الخصوبة، حيث يبلغ حاليا 1.7 طفل لكل امرأة، وهو أقل من 2.1 مولود لكل امرأة اللازمة لضمان بقاء عدد السكان كما هو، وفقا للبيانات الإيرانية.
بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل، كان 2.8 مولود لكل امرأة العام 2018، وهو آخر عام تتوفر عنه بيانات البنك الدولي. ونقلت الصحيفة عن أستاذة علم السكان بجامعة طهران قولها؛ إن التحضر، وارتفاع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة، والتوسع في التعليم العالي، ساهمت جميعها في انتشار تنظيم الأسرة في إيران، مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة.
وكان المرشد الأعلى خامنئي قد أعلن في تموز/ يوليو 2020، بعد شهرين من بحث لمجلس الثورة الثقافية حول النمو السلبي للسكان في إيران؛ عن فشل سياسة النمو السكاني في البلاد، وأضاف أن هذه الأمور تحتاج إلى قانون، ويجب اعتبار قضية
الإنجاب مهمة وأنه يخشى من شيخوخة السكان.
كارثية مبادرة السيسي غير المدروسة وغياب كلماته السابقة حول الإيكولوجي:
وبمجرد انتهاء تلك التصريحات، شاهدنا تسارعا من المنصات الإعلامية حول أهمية "تحديد النسل"، وأنه السبيل الوحيد لحل مشكلات مصر، وبلغت المزايدة من وزارة الأوقاف أن جعلتها موضوع خطبة الجمعة الموحدة بجميع المساجد، في حين ساد الصمت المعتاد أجواء الكنيسة المصرية.
وقد أشار السيسي في كلمته إلى فكرة إصدار تشريعات للحد من الإنجاب، وتلك قضية مطروحة بالفعل ومن الجائز أن يعمل عليها مجلس النواب لإصدار تشريعات وقوانين، وهذا قد يضيف المزيد من الهدر للثروة البشرية في مصر باعتبارها قيمة مضافة وعنصرا فعالا في دعم الاقتصاد القومي، كما هو معروف عالميا منذ المؤتمر الدولي للسكان بالمكسيك عام 1984 الذي أقر بذلك.
وتبقى كلمة أخيرة..
وهي تذكرة السيسي بما سبق وأن أعلنه أمام مجموعة "البريكس" في الصين في شهر أيلول/ سبتمبر عام 1977، حيث توجه بالتحية للبرازيل، وقال: "الشعب البرازيلي الصديق، الذي أدرك مبكرا مفاهيم حماية البيئة والتنوع الإيكولوجي، فأهدى العالم مبدأً صار عقيدة دولية، وهي التنمية المستدامة، التي ولدت في مدينة ريو البرازيلية عام 1992".