يعيش
المصريون حالة من عدم اليقين المجتمعي،
والقلق من عدم مقدرة محدودي الدخل والفقراء في الحصول على خدمات الرعاية الصحية؛
بعد إقرار "قانون تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل
وتطوير المنشآت الطبية في مصر"؛ وهو قانون يسمح بتأجير المستشفيات الحكومية
للمستثمرين المصريين والأجانب، وتلك حالة يُحذر منها المتابعون للحالة الصحية؛
باعتبارها حلقة أخيرة من سلسلة
الخصخصة للصحة والتي بدأتها الدولة منذ بضع سنوات،
في ظاهرة ترجع إلى شروط صندوق النقد الدولي بعد منح مصر قرض مالى عام 2016.
تعريف الخصخصة بصورة عامة
هي نقل الموارد الاقتصادية من الملكية
العامة إلى ملكية أفراد أو كيانات خاصة، وغالبًا ما يكون ذلك في الخدمات أو في
صناعات محددة، وفي بعض الحالات، قد تكون الملكية الخاصة جزءًا من شراكة أكبر بين
القطاعين العام والخاص.
مراحل تطبيق خصخصة الصحة في مصر
أولا ـ مستشفيات التكامل الصحي: بناء على
توجيهات السيسى في شهر ديسمبر 2016 بخصخصة مستشفيات التكامل الصحي ومنحها للقطاع
الخاص لتشغيلها، فقد بدأ التنفيذ خلال سنة 2017م، بطرح 48 مستشفى تكامل صحى في 9
محافظات بالصعيد بتكلفة 42 مليون دولار من قرض البنك الدولي، وقد اعترض عدد من
أعضاء البرلمان للتخوف من عدم وجود
ضمانات لمسألة وصول الخدمة الطبية للفقراء
، لأنه سيمثل عبئا ماديا كبيرا عليهم، حيث أن مستشفيات التكامل تمنح الخدمة الطبية
في مناطق واسعة جغرافيا لا يوجد بها بدائل لتقديم الرعاية الصحية .
ومن جانبها، فقد استنكرت نقابة الأطباء
مقترح بيع مستشفيات التكامل على اعتبار أنها خطوة أولى في بداية لخصخصة قطاع
الصحة، وسوف تؤدي إلى ارتفاع سعر الخدمة الطبية ومعاناة الطبقات الفقيرة من الشعب.
إن بيع هذه الأصول والصروح الطبية العملاقة يعني خسارة كبيرة للغاية للشعب المصري المالك الحقيقي لهذه الأصول؛ ويتسبب في الكثير من المخاطر المتوقعة بعد انتقال ملكيته لهذه الصروح الطبية العملاقة ومنحها للمستثمرين
ثانيا ـ صدر قانون التأمين الصحي الشامل رقم
2 لسنة 2018، والذي يقنن إجراءات خصخصة المستشفيات الحكومية، حيث يحول الخدمة
الصحية إلى سلعة ترتفع تكاليفها بناء على رغبة المستثمرين أصحاب المستشفى، وهو
القانون الذي يزيد الأعباء على المواطنين، حيث يطلب من المواطن دفع مبالغ مالية
تصل إلى 10 % رسوم لكل خدمة طبية يحتاجها مثل التحاليل وفحص الأشعة والأدوية،
بالرغم من أنه يتم خصم نسبة مئوية من إجمالي دخله باعتبارها اشتراكا إجباريا يتم
تحصيله شهريا يشمله هو وجميع أفراد أسرته.
ثالثا ـ تطبيق قانون الشراكة رقم 67 لسنة
2010 لتنظيم مشاركة القطاع الخاص في مشروعات البنية الأساسية والخدمات والمرافق
العام ، و نظرا لضعف البنية التحتية في محافظة بورسعيد والتي تقرر البدء بها ، فقد
تم تفعيل القانون والذى يلزم الحكومة في حالة عدم القدرة على الصرف في القيام
بإدخال شريك معها، وبناء عليه فقد تم
استحواذ مجموعة كليوباترا التابعة لأبراج كابيتال الإماراتية على مستشفى التضامن،
ومجموعة دار الفؤاد على مستشفى الزهور، ومجموعة المغربي للعيون على مستشفى الرمد،
ومجموعة مجدي يعقوب على مستشفى الأطفال التخصصي، وكان اللافت للنظر هو الإعلان عن
ذلك أمام المواطنين بعد تغيير اللافتات على واجهات المستشفيات لتحمل أسماء
المستثمرين.
رابعا ـ إنشاء شركة قابضة " رعاية مصر
" من خلال هيئة الرعاية الصحية:
في نهاية نوفمبر2021، قامت هيئة الرعاية
الصحية، التابعة للتأمين الصحي الشامل، بإنشاء شركة قابضة "رعاية مصر"،
كخطوة لخصخصة الخدمات الصحية، والشركة الجديدة ستعمل في كلٍّ من؛ إدارة
المستشفيات، وإدارة الكيانات الصحية، وإنشاء المستشفيات وصيانتها، والتحول الرقمي
والحلول التكنولوجية في الصحة، وحاضنات الأفكار التكنولوجية الصحية.
خامسا ـ قرار بتأسيس شركة إي هيلث "e-Health" بالشراكة بين
الهيئة العامة للتأمين الصحي وشركة " آى فاينانس " للاستثمارات المالية
والرقمية، بالقرار رقم 2118 لسنة 2021، و بهذه الخطوة ستُنقل تبعية المستشفيات
الحكومية والوحدات، من كونها أملاكًا للدولة أو منشآت تابعة لمديريات الصحة في
المحافظات، إلى الشركة القابضة الجديدة للمرة الأولى في التاريخ المصري، كما أن
ذلك سيكون بمثابة خصخصة للخدمة الصحية، والتفافًا على قانون التأمين الصحي الشامل
الجديد الصادر بالقرار رقم 2 لسنة 2018، ، ومشكلة القرار تكمن في كونه ربط تقديم
الخدمة الصحية بالتوازن المالي، بمعنى وجوبية تحقيق الربح وأن القرار مُخالف
لمضمون وروح المادة 18 من الدستور المصري الصادر عام 2014، التي تُلزم الحكومة
بتقديم الخدمة الصحية لكل المواطنين.
سادسا ـ خصخصة مستشفيات المؤسسة العلاجية
الناجحة : حيث أعلنت وزارة الصحة يوم 15 سبتمبر 2022م، عن طرح خمسة
من أكبر مستشفياتها للبيع أمام القطاع الخاص رسمياً، ليمثل خبرا صاعقا وصادما في ذات
الوقت لملايين المصريين، خاصة وأن المستشفيات المستهدفة بالخصخصة في المرحلة
الأولى هي: المستشفى القبطي ، ومستشفى العجوزة، ومستشفى هليوبوليس، ومستشفى
شيراتون، ومستشفى الجلالة، على أن تتبعها مستشفيات أخرى مثل دار الشفاء والجمهورية
ومبرة مصر القديمة ومبرة المعادي، والاستثمار في هذه المستشفيات قد يكون من خلال
الإدارة، أو بنظام حق الانتفاع لمدة زمنية محددة.
يصر النظام على بيع أصول مصر وصروحها الطبية العملاقة؛ في سياق سياساته المرنة تجاه إملاءات صندوق النقد الدولي، والتي بدأت بعرض مستشفيات المؤسسة العلاجية للبيع رغم نجاحها وتحقيقها الاكتفاء الذاتي دون تلقي أي دعم من الدولة
سابعا ـ وثيقة سياسة ملكية الدولة (يونيو
2022): تشمل منهجية تحديد الأصول المملوكة للدولة، والتوجه نحو المزيد من تمكين
القطاع الخاص، وآليات تنفيذ سياسة ملكية الدولة المصرية للأصول العامة وتشجيع
القطاع الخاص، وأن صندوق مصر السيادي له دور رائد لتعزيز المشاركة مع القطاع
الخاص، والاستفادة من الخبرات الإدارية للقطاع الخاص الطبي في مشروعات التأمين
الصحي الشامل.
ثامنا ـ قانون تنظيم منح التزام المرافق
العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الطبية في مصر، والمعروف إعلاميا بأنه
“قانون تأجير المستشفيات “؛ والذي أثار المخاوف مؤخرا من احتمالية تشريد 75 % من
القوى العاملة وما يصاحب ذلك من تساؤلات مشروعة بشأن الطواقم الطبية والعاملين
بهذه المنشآت من حيث ضمان استمرارية الحقوق المالية ومأمونية الاستقرار المجتمعي
لهؤلاء العاملين وأسرهم، وعدم وجود نسبة محددة لتقديم خدمات التأمين الصحي وعلاج
نفقة الدولة للطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل.
خصخصة الصحة وزيادة معاناة المرضى
إن بيع هذه الأصول والصروح الطبية العملاقة
يعني خسارة كبيرة للغاية للشعب المصري المالك الحقيقي لهذه الأصول؛ ويتسبب في
الكثير من المخاطر المتوقعة بعد انتقال
ملكيته لهذه الصروح الطبية العملاقة ومنحها للمستثمرين:
1 ـ انعدام الرقابة: من الواقع حاليا أن رقابة الحكومة على
المستشفيات الاستثمارية والخاصة يكاد يكون منعدما؛ ، وتحول أغلبها إلى مشروعات
استثمارية هدفها تحقيق الأرباح، وليس تقديم الخدمات العلاجية، والتخفيف عن آلام
المرضى، وقد عانى المرضى كثيرا خلال فترة انتشار وباء كورونا وزيادة الطلب التي
فاقت قدرات المستشفيات الحكومية ، فتوجه المرضى إلى المستشفيات الخاصة حيث زات فيها معاناة المواطنين بسبب غياب الرقابة
الحكومية .
2 ـ ارتفاع أسعار الخدمات الصحية: استنزاف المستشفيات الخاصة
لجيوب المرضى، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة يعاني منها الجميع، خاصة وأن مصاريف
احتجاز المريض من أجل تلقي الإسعافات الأولية فقط، قد تتجاوز عدة آلاف من الجنيهات
في كثير من المستشفيات، الأمر الذي يمثل أزمة كبيرة للمواطنين، ولا سيما مع غياب
الرقابة الحكومية أو ضعفها.
3 ـ استحواذ القطاع الصحي واحتكار تقديم الخدمة: والذي أصبح
جاذباً بشكل كبير لمستثمري الخليج، نتيجة الأرباح والعوائد الضخمة التي تحققها
المستشفيات الخاصة، لتحتل الاستحواذات المالية في هذا القطاع المرتبة الثانية من
إجمالي القطاعات الاقتصادية المصرية، وهذا يزيد من القلق بشأن التكتلات الاحتكارية
في القطاع الطبي الخاص، الذي يشكو أغلب المصريين من انفلات أسعار خدماته.
4 ـ تسليع الصحة: يصر النظام على بيع أصول مصر وصروحها
الطبية العملاقة؛ في سياق سياساته المرنة تجاه إملاءات صندوق النقد الدولي، والتي
بدأت بعرض مستشفيات المؤسسة العلاجية للبيع رغم نجاحها وتحقيقها الاكتفاء الذاتي
دون تلقي أي دعم من الدولة، والتي كانت إحدى محطات خصخصة الخدمة الصحية وتحويل
الرعاية الطبية التي تعتبر واجبا دستوريا على الدولة إلى سلعة؛ وهي سياسات تهدد
تماسك المجتمع ووحدته، وتزيد من إحساس المواطن بوجود فروق طبقية في تلقى الرعاية
الصحية.
خصخصة الصحة لا تناسب قدرات طبقة الفقراء
الذين يتزايدون في مصر
في ندوة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في
أكتوبر عام 2023، بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الفقر، قالت الدكتورة هبة
الليثي مستشار الجهاز المركزي للإحصاء، إن هناك علاقة وثيقة بين الفقر والأمن
الغذائي والرعاية الصحية للمواطن؛ وكشفت الليثي أن عدد المؤمن عليهم والمشتركين
بالتأمينات الاجتماعية من الفقراء بدأ يقل منذ عام 2017 ، وهو مؤشر خطير نتيجة
افتقادهم الغطاء التأميني الذي يحميهم من الصدمات الاقتصادية المتوقعة. وأشارت إلى
أن هناك 80% من الأسر الفقيرة لا يستفيدون من برنامج "تكافل وكرامة"
بينما يستفيد منه 20% فقط من الفقراء.
في حين أشار تقرير البنك الدولي إلى ارتفاع
التفاوتات المكانية بين المناطق الريفية والحضرية خلال عام 2022، إذ يعيش نحو 66%
من الفقراء في مناطق ريفية، مع وصول معدلات التضخم السنوي فيه إلى 42.6%.
ومن جانبها قالت الدكتورة عالية المهدي
أستاذة الاقتصاد أن نسبة الفقر المتوقعة في عام 2025 قد تصل إلى 36% من السكان في
مصر، كما تشير التقديرات إلى أن الفقراء يشكلون في عام 2023 نحو 33.3% من إجمالي
السكان مقابل 29.5% في عام 2019. وهذا يعني أن نحو 37 مليون شخص يعيشون في حالة
فقر عام 2023.
خطورة قانون تأجير المستشفيات الحكومية على
مستقبل الرعاية الصحية في مصر
القانون يسمح بخروج عدد من المستشفيات
الحكومية خارج منظومة التأمين الصحي الشامل، وعدم إخضاعها لأسعار الخدمة المرتبطة
بالمنظومة، مع الاكتفاء بإلزام المستثمرين فقط بتخصيص نسبة من إجمالي الخدمات
للمنتفعين بالقانون، ما يمكن أن يؤدي بدوره إلى التقليل من فعالية المنظومة ذاتها،
كما يهدد إمكانية الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية، خاصة للفئات الأكثر احتياجا
في المجتمع، فضلا عن افتقاد ضمانات الجودة والنزاهة في تقديم الخدمات الصحية،
إضافة إلى أنه يزيد من هجرة الأطباء للخارج، ويحدث حالة من التجريف المتعمد
للكفاءات الطبية والفنية، والتي تهدد بانهيار منظومة الرعاية الصحية بصورة عامة .