الثورة ظاهرة اجتماعية تعني الخروج عن الوضع الراهن، وتغييره باندفاع جماعي يحركه الرفض وعدم الرضا عن النظام السياسي القائم ومؤسساته، والتطلع إلى نظام أفضل عبر انتقال السلطة من الطبقة الحاكمة إلى طبقة الثوار، وهي في الغالب لا ترتبط بشرعية قانونية أو دستورية.
ويلزم الثورة لتنجح؛ التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في النظام السابق، لتحقيق طموحات التغيير لنظام سياسي نزيه وعادل، يوفر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع.
قد تأخذ الثورة شكل حركات المقاومة ضد المستعمر مثل ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962م). ولكن الثورة إذا انطلقت من تجمعات جماهيرية شاملة وجارفة سميت ثورة شعبية، كالثورة الفرنسية عام 1789م وثورات أوروبا الشرقية عام 1989م، ومنها الثورات العربية أوائل العقد الماضي، كثورة يناير في
مصر، وأخواتها في تونس وسوريا واليمن وليبيا، في ما عرف بالربيع العربي.
يلزم الثورة لتنجح؛ التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في النظام السابق، لتحقيق طموحات التغيير لنظام سياسي نزيه وعادل، يوفر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع.
أما إذا قام أحد العسكريين بالوثوب إلى السلطة والسطو عليها مستخدما القوة العسكرية؛ اعتبر ذلك انقلابا، مهما كانت الذرائع والحجج التي يروجها، كتلك الانقلابات التي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وكالانقلاب الأخير في مصر (في تموز/ يوليو 2013) الذي قاده
السيسي على الرئيس الدكتور محمد مرسي - رحمه الله - المنتخب ديمقراطيا بعد ثورة شعبية، بعد عام واحد من توليه.
المتتبع لتاريخ الثورات حول العالم، يجد أن ثمة عاملين أساسيين يشكلان دائما الأسباب الداعية لقيام الثورة على الحكام أو الأنظمة السياسية القائمة.
العامل الأول: هو العامل السياسي المتمثل في إهدار الحريات، وتغييب الإرادة الشعبية الحقيقية في اختيار الحاكم، والاعتماد على تزوير الانتخابات، وتسييس مؤسسات الدولة بحيث تصبح جميعها خادمة للحاكم لا الشعب، وعدم احترام القيم الدستورية، والتلاعب بالقوانين، وغياب الشفافية والنزاهة، وشيوع الفساد، وغياب مبدأ سيادة القانون.
والعامل الثاني: هو العامل الاقتصادي الذي يرتبط بمعاش الناس، والمتمثل في سوء إدارة موارد الدولة، وغياب العدالة في توزيع الثروة، والذي يظهر بوضوح في التمايز الطبقي لبعص فئات المجتمع، وعدم تطبيق مبدأ المساواة، وانعدام تكافؤ الفرص، وشيوع الفقر، وازدياد نسبة البطالة، وغياب المحاسبة لكبار المسؤولين، واستئثار فئة من الفئات بالسلطة والثروة معا.
تصديقا لما تقدم من أسباب؛ فقد رأينا أن أبرز شعارات الثورات كانت تتمحور حول المناداة بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والعيش الكريم.
تلك الأسباب إذا اجتمعت وتراكمت وطال أمدها وأصبحت سمة للنظام الحاكم؛ فإنها تولد مع الوقت حالة من السخط الشعبي العام الذي يتنامى يوما بعد يوم، حتى يصل إلى مرحلة الغليان ثم الانفجار في وجه أي حاكم مستبد، مهما كانت درجة بطشه وسيطرته وقهره لشعبه، وما زين العابدين بن علي والقذافي ومبارك وعلي صالح مما نقول ببعيد.
ما سبق ذكره، انطبق على الحالة المصرية تماماً، فثورة يناير 2011م اندلعت بعد فترة حكم لمبارك استمرت ثلاثة عقود، تراكمت خلاها كل مسببات الثورة السياسية والاقتصادية.
إن ما سبق ذكره، انطبق على الحالة المصرية تماما، فثورة يناير 2011م اندلعت بعد فترة حكم لمبارك استمرت ثلاثة عقود، تراكمت خلاها كل مسببات الثورة السياسية والاقتصادية.
فمبارك ظل يحكم بقانون الطوارئ طوال فترة حكمه، بل إن عناصر شرطته كانت تتجاوز حتى قانون الطوارئ إلى قانون الغاب، حيث لا قانون من الأساس.
ومبارك جرف الحياة السياسية، فقد كانت الأحزاب في عهده أحزابا كرتونية لا روح فيها، ولم يكن نظامه من الأساس ليسمح بتأسيس أحزاب ذات توجهات وأجندات سياسية حقيقية، بل لم يكن ثمة صوت يعارضه سوى الحركات غير المؤطرة حزبيا، كحركتي كفاية و6 أبريل، وجماعة الإخوان المسلمين التي ظلت تدفع ثمنا باهظا لمواقفها السياسية، وفاتورة مستمرة من حريات وأعمار أعضائها وكوادرها، على الرغم من أن ذلك كان في ما تنتزع من مساحة محدودة للتعبير والاحتجاج.
وطوال ثلاثين عاما من حكم
مبارك، لم تشهد مصر انتخابات نزيهة وشفافة ومحترمة على موقع رئيس الدولة، والمرة الوحيدة التي سُمح فيها بالمنافسة كانت عام 2005م، وقد تم التلاعب بإجراءاتها ونتائجها، وتم بعدها سجن المنافس الأبرز حينئذٍ أيمن نور (الذي حصل على حوالي 7.5 في المئة فقط من الأصوات) لمدة خمس سنوات عقابا له على تجرؤه على منافسته، وليكون عبرة لمن تسول له نفسه أن يفكر في الترشح مرة أخرى.
وحتى الانتخابات البرلمانية كانت غالبا ما تسبقها حملات اعتقال لكوادر وأنصار جماعة الإخوان المسلمين، الفصيل الأقدر وقتذاك على الاتصال بالشارع وكسب ثقة الناخبين. ولعل الصورة الفاضحة لنظام مبارك التي خرجت بها انتخابات 2010م ما زالت في الأذهان، إثر التزوير العلني الذي لم يتح لمعارض حقيقي أن يصل إلى البرلمان.
أما على الصعيد الاقتصادي والمعيشي في عهد مبارك، فلم تكن الأمور أفضل حالا من الأوضاع السياسية، حيث لم تفلح حكومات مبارك المتعاقبة في تحسين أحوال المواطنين في أي مجال من المجالات، وبقي التردي في مستويات الصحة والتعليم وبقية الخدمات هو السمة السائدة لذلك النظام، ناهيك عن ارتفاع معدلات البطالة وعدم تناسب دخل المواطن مع نفقاته الأساسية واليومية، كل ذلك في ظل انتشار الفساد في مفاصل الدولة كافة والمجتمع، الذي شهد به أبرز رجال نظام مبارك ومدير ديوان الرئاسة حينئذ زكريا عزمي، حيث مقولته المشهورة في مجلس الشعب في أواخر عهده: "الفساد بقى للركب".
تلك كانت أهم أسباب قيام ثورة يناير عام 2011م التي أسفرت عن سقوط رأس النظام حسني مبارك، ودخلت الثورة بعد ذلك في منعطفات وتموجات الفترة الانتقالية وما شهدته من أحداث ومفارقات.
وهنا نصل إلى المحطة الأخيرة في هذا المقال، حيث نجيب عن السؤال الذي تضمنه عنوانه، وهو: هل تموت الثورات؟
الأسباب التي اندلعت بسببها ثورة يناير ما زالت موجودة، بل ازدادت الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية سوءا وبشاعة، بل وزادت عليها أسباب أخرى أشد إجراما.
والإجابة: "لا".. الثورات لا تموت، قد تمرض، أو حتى قد تصارع الموت نتيجة سهام ورماح الثورة المضادة ورصاص الانقلابات العسكرية، لكنها في النهاية ستنتصر، نعم ستنتصر ما دامت أسبابها قائمة، فلا تسكن ثورة مهما طال الزمن حتى تنتصر وتحقق أهدافها.
إن الأسباب التي اندلعت بسببها ثورة يناير ما زالت موجودة، بل ازدادت الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية سوءا وبشاعة، بل وزادت عليها أسباب أخرى أشد إجراما، نالت من كرامة الوطن وأراضيه وحدوده ومياهه وثرواته، وتقزم حجم مصر في الإقليم والعالم، فتراجعت مكانتها وسقطت هيبتها.
بل الجريمة الكبرى التي تضاف أيضا لكل تلك الأسباب، هي أن السيسي وعصابته هم سارقو مكتسبات ثورة يناير، ومضيعو تضحيات شبابها، ومعطلو حلم جيلها، بل هم من أراق الدماء ويتّم الأطفال، ورمّل النساء.
إن الثورات لا تموت ما دامت أهدافها لم تتحقق، لكنها فقط تتحين الفرصة لفورة جديدة للثوار، تحطم الأغلال، وتكسر قيد الأبطال، وتحرر الأسرى من الأحرار، ليشرق في الكون فجر جديد.
وإن غدا لناظره قريب.