هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليلة الثلاثاء الماضي شهد ملعب حديقة الأمراء بباريس حدثا غريبا لم يسبقه إليه أي ملاعب العالم رغم العنصرية التي تفشت في الرياضة وحملت بعض جماهير الأندية لواءها تعبيرا عن واقع مجتمعي صار أمرا واقعا. الجديد في واقعة ملعب حديقة الأمراء أن التعبير العنصري لم يصدر عن لاعب منافس أو مشجع متهور بل عن أعلى سلطة قضائية يتم الاحتكام إليها للفصل بين المتبارين بحكم القانون. لم يكن غريبا أن يحدث ذلك بباريس فقد تحولت العنصرية والتصنيف حسب العرق واللون والدين سياسة "رسمية" تتبناها مؤسسات دولة ما كان يسمى ذات زمان بـ"عصر الأنوار".
من سوء حظ فرنسا، الغارقة في أزمة مستدامة تستعصي على الحل، أن كلمات الحكم الرابع للمباراة هي ذاتها، بل هي أخف، من تلك التي نطق بها عناصر شرطة قبلها بأيام وهم ينهون حفلة ضرب واعتداء غير مسبوقين، أو هكذا نظن، في حق مواطن فرنسي أسود البشر نعته موظفو الجمهورية ب"الزنجي القذر". كلمات أثارت حينها موجة استنكار أقرب إلى النفاق مع استبعاد إمكانية حدوثها، فشرطة الجمهورية ليست عنصرية وإن كان بعض منتسبيها متأثرين بإيديولوجية اليمين المتطرف الفرنسي. ماكرون قيل في بيان للإيليزيه إنه أصيب بالصدمة، أما غيره من الساسة الفرنسيين فقد انبروا لاستنكار الواقعة، والسبب تصويرها بكاميرا مراقبة فندت كل اتهامات الشرطة التي لولاها لتم الزج بميشيل زيكلير ليمارس التأليف الموسيقي في السجن لسنوات.
حظ فرنسا العاثر لم يكن مرتبطا بتحولها مسرحا لهذا الذي وصفته صحف دولية بالعار، بل إن ضحيتي الحادثتين منحدرتان من دول الاستعمار الفرنسي لإفريقيا، الذي ترفض باريس الاعتذار عنه. كلمة زنجي أو أسود ما كان لها أن تحمل معانٍ حاطة من الكرامة الإنسانية لولا الماضي الاستعماري المرادف لاستعباد السود.
لكن الأهم بالنسبة لساسة فرنسا اليوم هو الفرصة التي أتاحها الحادث العنصري للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليضع اسمه مجددا في جملة مفيدة مع فرنسا، حيث كان الفريق الخصم ممثلا لعاصمة "العثمانيين الجدد"، وهم الذين اشتكى إيمانويل ماكرون في حوار مع مجلة "جون أفريك" من تنفيذهم بمعية الروس لـ"استراتيجية تهدف لتأجيج مشاعر معادية لفرنسا بإفريقيا... تلعب على وتر تأجيج نقمة ما بعد حقبة الاستعمار" قبل أن يضيف: "العديد من الذين يرفعون أصواتهم ويصورون فيديوهات، والموجودون على وسائل الإعلام الفرنسية، يقبضون رواتب من روسيا وتركيا"، ودعا الأفارقة إلى علاقة "قصة حب" لن تتحقق إلا بالتحرر من "أسر الماضي".
من حق اللاعب الفرنسي بينجامين ميندي طرح السؤال: "من دون الفيديوهات. ماذا كان سيحدث لميشيل؟" وهو يعلق على واقعة ضرب مواطنه ميشيل زيكلير. فماكرون وحكومته وبرلمانه مصرون على تكميم أفواه الصحافة الفرنسية، التي يتهم رئيس الدولة جزءا منها بالعمالة للروس والأتراك، ومعها المواطن العادي بطرحها لقانون "الأمن الشامل" ومادته 24 التي أخرجت الفرنسيين للشارع دفاعا عن حقهم في "حرية التعبير".
فرنسا التي لم تتوقف يوما، ولا تزال، عن محاولات تقديم الدروس في مجال حقوق الإنسان، صارت أشبه بالعاهرة التي تحاضر في الشرف. ولم يجد ماكرون غير دولة الإمارات لتدفع عنه تهمة محاولة عزل المسلمين بالغرب، ومعها ضيفه "الكبير"، زعيم الانقلاب بمصر، ليواسيها في وجه موجة "الكراهية" التي تستهدفها
قبلها بأسابيع فقط كان ماكرون محتكرا الحق في الدفاع عن الحرية تلك لكنه فصلها على مزاج الدولة الفرنسية في عهده وجعلها مقصورة على رسم وبث ونشر الرسوم المسيئة للإسلام ونبيه الكريم. فرنسا، التي تحرك ثلاثون فردا من شرطتها "الجمهورية" للمشاركة في حفل إهانة ميشيل لعدم ارتدائه كمامة، لا تتحرج من سن قوانين تكميم الحريات. ولأن للمسلمين تعامل خاص في ظل الجمهورية، فقد أقرت الحكومة دون تأخير قانونها حول الانفصالية بعد تغيير عنوانه، في التاسع من شهر كانون أول (ديسمبر)، إمعانا في تحديد مجال تحرك ما أسمته "الإسلام الراديكالي" الذي يجير تعدد الزوجات ويلجأ بعض من أبنائه لكشوف العذرية وتلبس نساؤه غطاء للرأس ولباسا ساترا للجسد...الخ.
قانون الانفصالية الذي صار اسمه قانون "تعزيز احترام مبادئ الجمهورية" درءا للشبهات لا يروي عطش الماكرونية، فالاتحادات الممثلة لمسلمي فرنسا مطالبة، بأمر الرئيس، باعتماد ميثاق للقيم الجمهورية يعتبر الإسلام دينا لا حركة سياسية وينهي تدخل دول أجنبية في تمويل المساجد والجمعيات مع ضرورة التوقيع تحت طائلة "استخلاص الدروس". من خرجوا للتظاهر ضد المادة 24 لا يجدون في القوانين المجحفة في حق المسلمين ما يخدش حياءهم "الجمهوري".
لكن فرنسا "الأنوار" وجدت نفسها في موقف دفاعي، رغم كل ما يحاول مسؤولوها تصديره للرأي العام، حيث أحيانا الله حتى شهدنا المبعوث الأمريكي للحرية الدينية يعتبر المشروع الفرنسي "قمعيا جدا" مبديا قلقه حيال أوضاع المسلمين بفرنسا، في حين أعربت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن قلقها إزاء "وصم محتمل للمسلمين".
فرنسا التي لم تتوقف يوما، ولا تزال، عن محاولات تقديم الدروس في مجال حقوق الإنسان، صارت أشبه بالعاهرة التي تحاضر في الشرف. ولم يجد ماكرون غير دولة الإمارات لتدفع عنه تهمة محاولة عزل المسلمين بالغرب، ومعها ضيفه "الكبير"، زعيم الانقلاب بمصر، ليواسيها في وجه موجة "الكراهية" التي تستهدفها ويدافع عن القانون الذي يسنه برلمانها. أليس أكبر من هذا عارا تحمله فرنسا اليوم على أكتاف "أدبيات" كنا نظنها حقيقة فصارت كذبة وسرابا.
لقد كان مستغربا أن تطل جمعيات دولية وشخصيات بالمئات لتطالب ماكرون بالضغط على "ديكتاتور ترامب المفضل"، الذي غير ولاءها في اتجاه باريس لعلها تنقذه من عزلة دولية تبدو ممكنة مع أفول حكم دونالد، فإيمانويل ماكرون مجرد صنو أمين لعبد الفتاح السيسي. الفارق الوحيد ما تبقى من إرث فرنسا وجزء من مؤسساتها التي تحاول مقاومة الجنوح الأمني للفريق الحاكم بالإيليزيه ومقر الداخلية الفرنسية ببوفو.
لقد كان وصول إيمانويل ماكرون دون ظهير سياسي، نتيجة "انقلاب" قاده ضد رئيسه فرانسوا هولاند وهو الذي استقدمه من بنك روتشيلد وتعهده بالرعاية داخل قصر الايليزيه، فسبقه للترشح بديلا عن سنوات فشله في الحكم. ولأن الرجل لم يكن له من داعم في الساحة غير لوبيات المال والإعلام، فقد صنع له حزبا على المقاس جمع فيه اليميني الطامح بسقط المتاع اليساري. مهدت الطريق أمام الشاب ماكرون بإزاحة منافسه في اليمين التقليدي بتهمة تدبر وظيفة وهمية لزوجته بالبرلمان، ليصبح التخويف من وصول اليمين المتطرف للرئاسة، في شخص مارين لوبن، ضمانته الوحيدة لحصد الأصوات، وكذلك كان.
لقد كان وصول إيمانويل ماكرون دون ظهير سياسي، نتيجة "انقلاب" قاده ضد رئيسه فرانسوا هولاند وهو الذي استقدمه من بنك روتشيلد وتعهده بالرعاية داخل قصر الايليزيه، فسبقه للترشح بديلا عن سنوات فشله في الحكم.
وصل ماكرون لسدة الرئاسة، فأقال رئيس الأركان الفرنسي، ثم بدأ في التخلص من المقربين منه يمينا ويسارا لاختلاف في الرؤى أو رغبة في حماية الذات. ولأن حركة السترات الصفراء قضت على كل إرث يساري يمكنه التباهي به، فقد أطلق يد الشرطة في قمع التظاهرات تقربا لناخبي اليمين المتطرف معلنا عن سياسة هجرة "جديدة" استل مفرداتها من خطابات ذات التوجه الأيديولوجي. وهو التوجه الذي سرع من وتيرته في الأيام الماضية بمحاولة اعتماد قوانين تحد من "حرية التعبير والنشر"، وتحمي الأجهزة الأمنية في مواجهة المواطنين. كما وجد في الإسلام رأس حربته الجديدة للتمكين لإعادة انتخاب تبدو غير مؤكدة حتى الآن، وصار الحديث عن رهاب الإسلام ومواجهة الإرهاب معادلا لخطاب ضيفه "الصغير" قبل أيام. ماكرون الذي لم يجد حرجا في الاحتفاء بالسيسي وإنهاء أكذوبة ربط التعاون العسكري والاقتصادي والدعم السياسي بحدوتة حقوق الإنسان.
تطالب المنظمات والشخصيات الحقوقية، رئيس فرنسا باحترام "إرث" بلاده. لكنها تنسى أن ذات فرنسا صارت على لائحة الدول المناوئة للحرية الدينية، والمعتدية على المتظاهرين وعلى الصحافيين، لدرجة تلقيها بعضا من انتقادات مراسلين بلا حدود والاتحاد الدولي للصحفيين. ماكرون وحكومته تفضل حماية مجلة شارلي ايبدو ومنتسبيها لبث سمومهم ضد الإسلام عن حماية الصحفيين أثناء أداء مهامهم في تغطية التظاهرات. أمين الحلبي مصور سوري يعمل لفائدة وكالة الأنباء الفرنسية، ظن نفسه في مأمن من اعتداءات الشبيحة حتى توالت عليه ضربات الهراوات في باريس، معقل "حرية الإعلام". حظه ليس أوفر من حظ لاجئين، هو واحد منهم، كانوا ينتظرون من السلطات الفرنسية الحماية فووجهوا بالقمع في قلب باريس نفسها.
تتناسى باريس عمدا أن السيسي كان مشرفا على حملات كشف العذرية على المحتجات بميدان التحرير. باريس صارت مثل الحكم الرابع الذي حكم مقابلة ملعب حديقة الأمراء قبل أيام، منبر سابق لحقوق الإنسان يبصق في وجوه الملتجئين لإرثها. إنها باريس في زمن العار والانحطاط الفرنسي.
باريس التي يحكم قضاتها على ناشط نقابي بتهمة "ازدراء وزير الداخلية" بعد وصفه ب"المغتصب القذر"، وهو الذي لا يزال متابعا أمام المحاكم بتهمة اغتصاب امرأة لجأت إليه قبل سنوات طلبا للمساعدة فضاجعها ب"التراضي" كما يدعي. هي ذاتها باريس التي يحتج أحد نوابها في البرلمان على إعجاب اللاعب الدولي كيمبيمبي بمنشور للمقاتل الروسي حبيب نور محمدوف، ويدعو لمنعه من تمثيل فرنسا.
أما وزير داخليته فاستنكر تضامن كيليان مبابي وانطوان غريزمان التضامن مع ميشيل زيكلير ودعاهما لفعل ذات الشيء مع رجال الشرطة الجرحى أثناء تفريق التظاهرات إسوة بمسؤولي وإعلام الضيف "الصغير" الذي قضى وقتا وهو يطارد علامة رابعة في الملاعب والمدرجات ويصنف على إثرها المخالفين "إرهابيين". باريس التي طاردت وليد عبد الرحمان أبوزيد منذ العام 1982 بتهمة المشاركة في اعتداء وقع في حي يعيش فيه يهود بباريس وأسفر عن ستة قتلى، واستلمته قبل أيام من النرويج، في وقت تدعو فيه ضحايا الاستعمار إلى نسيان الماضي وتحل فيه تجمعا مناهضا للاسلاموفوبيا حتى تحرم المسلمين هناك من توثيق الاعتداءات التي يتعرضون عليها.
باريس التي يعلن برلمانها بنوابه وشيوخه عن دعمه استقلال قره باغ، ويتدخل رئيسها في شؤون الجزائر مثيرا استهجان الحكم والمعارضة على السواء، أو يحدد للبنان أولويات حكومته ويريد التحول لعراب تمويل المشاريع كما يسعى للفعل ذاته بالسودان، وهو الذي لا ينفك يستنكر التمويل الأجنبي لأنشطة المسلمين ببلاد "الأنوار". باريس التي تواجه اتهامات بتدريب جنود سعوديين مشاركين في الحرب على اليمن وهي التي ساعدت ولا تزال حفتر في ليبيا، وعندما كشفت مصالح الجمارك التونسية عن عملاء لها هناك فروا بعد تقدم قوات الوفاق، أقيل المسؤول التونسي فقد كشف ما أرادته مستورا.
باريس التي كانت على أهبة توريد أسلحة لقمع مظاهرات التوانسة ضد حكم زين العابدين بن علي هي ذاته التي تعلن صراحة وبدون مساحيق تجميل أن مهمة دعم العسكري المنقلب بمصر لا يمكن لحقوق الإنسان أن تعطلها. تتناسى باريس عمدا أن السيسي كان مشرفا على حملات كشف العذرية على المحتجات بميدان التحرير. باريس صارت مثل الحكم الرابع الذي حكم مقابلة ملعب حديقة الأمراء قبل أيام، منبر سابق لحقوق الإنسان يبصق في وجوه الملتجئين لإرثها. إنها باريس في زمن العار والانحطاط الفرنسي.
يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري، في كتابه (الانحطاط)، إن أقرب بديل للحضارة الغربية هو الحضارة الإسلامية لأسباب لعل أهمها امتلاك الأخيرة عنصر العولمة، وقيامها على فكر مفارق شديد الحيوية وهو الدين الإسلامي وامتلاكها أيضا ما أسماه "الروح النيتشوية المتوهجة" التي تتمثل في أبناء تلك الحضارة واستعدادهم للموت بمنتهى السهولة في سبيل قيمهم، في وقت لا يوجد فيه مواطن أوروبي على استعداد للموت في سبيل العدل والمساواة والإخاء وغيرها من قيم الثورة الفرنسية التي تعد حجر الأساس في تكوين الحضارة الغربية الحديثة. هذه الحضارة التي يرى أنها بدأت مراحل الانحطاط، حينما تخلت المجتمعات الغربية عن القيم الحقيقية للديانة المسيحية، فبدأت في فقدان روحها التي كانت محركها المتقد، قبل أن تدخل مرحلة الخمول ثم ذروة الانحطاط باندلاع الثورة الفرنسية.
ميشيل أونفري لا يقدم نفسه أفوليا (من الأفول) أو رجعيا محافظا يسعى لبعث الماضي بدعوى أفضليته. لكنه مؤمن بأن الحضارات تولد وتنمو وتصل لأوجها قبل أن تتهاوى وتختفي تاركة مكانها لحضارة جديدة أقوى. المسيحية في نظره اليوم متسامحة لأنها لم تعد تملك أدوات اللا تسامح. أما الإسلام فيملك تلك الوسائل ولا يحرم نفسه من استخدامها.
يبدو ألّا أحد يقرأ وينفري في باريس.