كتاب عربي 21

طعن السكاكين المتبادل في فرنسا

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600

في مدينة نيس شاب بملامح عربية يتقدم إلى كنيسة ليطعن أبرياء ويرديهم قتلى.. في ذات الوقت في أفينيون كهل بملامح بيضاء يمسك سكينا ويتقدم لطعن مواطن فرنسي بملامح مغاربية. في نيس القاتل شاب مولود في أحد أكثر الأرياف فقرا في تونس (سيدي عمر بوحجلة في القيروان)، يركب قاربا لـ"الحرقة"، يصل إلى جزيرة لامبيدوزا، يقع إيقافه مع غيره العشرات، يتم نقله إلى شمال إيطاليا ثم يتم الإفراج عنه بتنبيه للمغادرة والترحيل، فيقوم مثل سابقيه الكثيرين بالمغادرة إلى فرنسا. بعدها بأيام قليلة يغرس سكينه الغادر في أجساد متعبدي مسيحيين آمنين في كنيستهم. في المقابل صاحب السكين في أفينيون منتم إلى أوساط اليمين العنصري الأبيض المتطرف، مقيم في فرنسا عبر أجيال، يقرر طعن مواطن آخر لأن ملامحه مختلفة.

دعنا نكن واضحين.. كل ردهات العنف أعلاه غير مبررة في المطلق وتحتاج التنديد الواضح بدون "ولكن".. من يبرر طعن آمنين قرب كنيسة نيس، أيضا قتل أستاذ التاريخ في باريس، بأي شكل من الأشكال إنما يبيض الإرهاب. من يبرر طعن العامل المغاربي في أفينيون إنما يبيض الإرهاب.

في المقابل، إذا تجنبنا المصادرات الفلسفية حول أن "الإنسان ذئب بطبعه" (مثلا هوبز) أو الإنسان "خير بطبعه" (مثلا روسو)، وإذا تجنبنا المصادرات العرقية-العنصرية حول أن "العربي/ المسلم دموي بطبعه"، و"الرجل الأبيض/ المسيحي عنصري مجرم بطبعه"، فإنه لا يتبقى أمامنا إلا اعتبار العنف بتجلياته جميعا نتيجة السياقات التاريخية والسياسية والثقافية والنفسية… الخ، كل على حدة أو مجتمعة. وعلينا أن نفهم أنه لا يمكن أن ننظر إلى كل ما يحدث من قتل ومحاولات قتل بشكل عبثي؛ بأنه نتيجة الأقدار.

ليس الإرهابي "نتيجة للفقر" ببساطة، إذ نسبة صغيرة جدا من الفقراء إرهابيون، وليس الإرهابي نتيجة انتماء عرقي، إذ نسبة صغيرة فقط من الإرهابيين ينتمون إلى العديد من الأعراق، كذلك ليس الإرهابي نتيجة انتماء ديني محدد، إذ نسبة صغيرة من الإرهابيين في كل مجموعة دينية، وليس كل الإرهابيين حالات نفسية عاقة، إذ هناك كثير من الإرهابيين ممن لا تظهر عليهم اضطرابات نفسية.. وليس الإرهابي فردا فقط، إذ كثير من الأعمال الإرهابية ارتكبتها دول أيضا.

نحن إزاء خلاصة مركبة متداخلة ومتشعبة لا تسمح بالتبسيط والتسطيح.

في المقابل، هناك الفعل الإرهابي وهناك أيضا الاستعداد الإرهابي، ليس كل من يستعد أن يكون إرهابيا يفعل الإرهاب؛ لدينا "المتفرجون" المؤهلون للإرهاب، هؤلاء عادة يستصغرون مقتل المختلف، ويبررون الرد على الشتيمة أو النقد أو حتى الاختلاف.. هؤلاء "جمهور" الإرهاب ومشجعوه، وفعل الإرهاب يترعرع وسط هتافاتهم وتشجيعاتهم. هؤلاء بذات خطورة الإرهابي، لكن مواجهتهم وتفكيك تأثيرهم القاتل أكثر صعوبة بكثير.

هناك أيضا الإرهاب الفردي أو الجماعاتي الذي يخدم إرهاب الدول، والعكس صحيح.

هناك الإرهاب الداعشي الذي يخدم الإرهاب العنصري، والعكس صحيح، رغم أن كليهما يعتبر الآخر أكبر أعدائه، فكم من حلفاء موضوعيين هم خصوم متعادون في الواقع أو على الورق فقط.

هناك تأثير النموذج الثقافي، مثل الدولة اليعقوبية في فرنسا، لكن أيضا ما حصل هذه الأيام في فرنسا ليس مسألة فرنسية فحسب، فالمهاجم التونسي في نيس، إبراهيم العيساوي، ابن 21 عاما، لم يعش في فرنسا أكثر من أسبوعين اثنين على الأقصى. إذ العيساوي حمل معه مرضا تونسيا، ولا يمكن اعتباره نتيجة صرفة لسياق فرنسي، رغم أن العالم "أصبح قرية" حتى بمعادلات الإرهاب.

كما لا يمكن أن نفسر وضع العيساوي بأنه نتيجة لاستبداد محلي عربي ضد شاب اضطر للهروب بسبب "اضطهاد ديني" ما، إذ نشأ أساسا بعد الثورة وفي حالة الديمقراطية، بل وفي حالة تزايد الحرية في التعبير الإسلامي.

منطق تمثل موقع الضحية دون فهم بقية الضحايا، واختلاق المؤامرات عندما تكون معتديا، والتنصل من المسؤولية؛ هي من الأمراض الطفولية للإرهابي والجمهور المساند للإرهاب.

طعن السكاكين المتبادل في شوارع فرنسا في 29 تشرين الأول/ أكتوبر، ليس حالة معاصرة بدون جذور في الماضي، وتمثلات الهيمنة أو العنف القادم من الآخر، عن حق أو باطل. وهو مؤشر على أن فرنسا أيضا تواجه مشكلا معمقا ومعقدا لا يمكن اختزاله في "حرية التعبير". كما أن المسلمين يواجهون مشكلا معقدا لا يمكن اختزاله في "الإساءة إلى الرسول". خلف هذه العناوين التي تستهوي موقع الضحية هناك واقع ودوافع أكثر تعقيدا.

 

twitter.com/t_kahlaoui
التعليقات (0)