كتب

في أصول المسألة المصرية.. وأسئلة الطريق إلى النهضة

في البحث عن مداخل النهضة في مصر.. كتاب يعرض لمحاولات التحديث في مصر  (عربي21)
في البحث عن مداخل النهضة في مصر.. كتاب يعرض لمحاولات التحديث في مصر (عربي21)

الكتاب: في أصول المسألة المصرية
المؤلف: صبحي وحيدة
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2020

مازالت المسألة المصرية تثير الاهتمام في مصر والخارج، وتدفع الكُتاب والباحثين إلى تقصي أسبابها والتصدي لمعالجتها، ولكن هذا الاهتمام يدور في الغالب حول العلاقات التي قامت منذ مطلع القرن الماضي بين مصر وتركيا، ثم مصر وبريطانيا العظمى، دون العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، التي صحبت ـ من الناحية المصرية ـ نشوء هذه العلاقات وتقلباتها وكانت الباعث لها إلى حد بعيد.

عرفت مصر منذ فجر نهضتها الحديثة، قبيل القرن التاسع عشر، وحتى معظم القرن العشرين، تراثاً غنياً من الفكر والثقافة الإنسانية الرفيعة المبنية على أدب البحث والنقد والحوار، مع الذات ومع الأخر، مع التراث ومع العصر، استوعب تراثها مختلف التيارات الفكرية والثقافية، من ليبرالية ومحافظة، من دينية مستنيرة وإنسانية، ومن مدنية ودنيوية، عرفت مصر الحديثة ذلك كله واستوعبته، ولم ينف أحدهما الآخر، أو يقصي أصحاب هذا التيار أو ذاك أو يكفرهم.. هضمت مختلف التيارات والرؤى، وتمثلتها في ثقافة تيارها الوطني العام، ومن ثم كانت النهضة والحداثة والاستنارة.

كان من الضروري، بعد ما عانته مصر في العقود الأخيرة من تاريخها، أن تستعيد دروس نهضتها، بنشر نصوص تراثها، لتصل حاضرها بماضيها، بغير قطيعة أو تجاهل، تستنبط من تراثها عناصر القوة والتجدد، وتصلها بمنجزات العصر.. وإذا كان حب الوطن من الإيمان، فلابد أن يستند هذا الحب إلى العلم والمعرفة، معرفة تراث النهضة والاستنارة وإعادة قراءته في ضوء التفكير العلمي ومناهجه الحديثة محبة لوطن جدير بكل تقدم ورقي.

وقد نشرت الهيئة العامة لقصور الثقافة هذه النصوص كما صدرت في زمانها، دونما تأويل أو تفسير، أو نزع بعضها من سياقه، خاصة وأن الكثير من نصوص هذا التراث لم يعد متوفراً، نتيجة عدم طباعتها لعقود طويلة. 

وضمن سلسلة "الهوية"، صدر حديثًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتاب "في أصول المسألة المصرية" للكاتب صبحي وحيدة. 

كان صبحي وحيدة، وقت كتابته لهذا الكتاب يشغل منصب رئيس اتحاد الصناعات فى مصر، وأدرك بثاقب نظره أنه لا يمكن لمصر أن تتقدم فى أي مجال، سياسيًا أو حضاريًا أو ثقافيًا، إلا بتحقيق تقدم اقتصادى ينشل معظم المصريين مما هم فيه من فقر، والآن بعد 70 عاما من ظهور الكتاب، يبدو أن هذه النظرة ما زالت هي النظرة الصحيحة "لأصول المسألة المصرية".

 

شرق وغرب

صدر الكتاب فى سنة 1950 وقسمه المؤلف إلى خمسة فصول، الفصل الأول عنوانه "الفتح العربى"، ويشرح فيه التحولات العالمية التى لحقت بحضارة البحر المتوسط، بعد أن انفرط عقد شعوب البحر المتوسط بعد تسعة قرون من الحياة المشتركة، إذ أطبقت القبائل العربية على ساحله الجنوبي في المائة السابعة، وتحول كل فريق منها إلى عالم جديد، فلحقت الشعوب الشرقية بالمجتمع الضخم الذي خلفته فتوحات القرن الأول الهجري بآسيا وأفريقيا وبعض أوروبا، وتقوقعت الشعوب الغربية إلى داخل القارة الأوروبية، فكان الشرق الإسلامي وحده يمتد من شواطئ البحر المتوسط إلى أطراف الصين والمحيط الهندي والإطلنطي، وكان الغرب المسيحي يشمل ألمانيا والجزر البريطانية، في حين كانت جامعة الشعوب الرومانية، وهي أكبر جامعة عرفها العالم القديم، لا تضم غير بلاد البلقان وأوروبا الجنوبية وإفريقيا الشمالية وآسيا الصغرى.

والفصل الثاني "حكم المغل"، ويقصد بهم المماليك ونظم حكمهم ووضع الاقتصاد المصري في زمانهم وما قاد إليه اضطراب حكمهم من كوارث حلت بالاقتصاد المصري، وهو يحلل الأسباب ويلقي ضوءً مهمًا على عصر المماليك ودور المصريين في ظل هذا الحكم.

الفصل الثالث، عنوانه "الموجة الغربية" ويتناول النهضة الأوروبية الحديثة وعلاقة أوروبا بالسلطنة العثمانية وأثر ذلك في حياة المصريين خصوصا الاقتصادية تحت حكم محمد علي وعباس وسعيد وإسماعيل.

ويناقش الفصل الرابع، وعنوانه "أعراض المراهقة" تأثير الموجة الغربية على حالة مصر الفكرية والاقتصادية والاجتماعية وما عانته البلاد من حالة ضعف وإهمال شؤونها، ويرى في الصناعة ونهوضها سبيل نهضة مصر وأساس التقدم في الحضارة الحديثة.

 

عقدة النقص

ويعرض الفصل الخامس، وعنوانه "عقدة النقص" للأفكار الفاسدة التي تتحكم في الحياة المصرية، ونحى الكاتب المعتقدات الشائعة في ذلك الوقت عن تقبل المصريين للحكم المستبد، وعن انتشار الخرافات فيما بينهم، والقصور عن الاقتصاد الصناعي والتأرجح بين قيم الشرق وقيم الغرب. 

فيقول المؤلف في صفحة 266: "والذين يتنقصون في مصر لترحيبها بالأسكندر وقبولها الرومان ورضاها بالعرب ينسون أن العهود اليونانية والرومانية والعربية عهود ثورات عالمية اجتاحت العالم المعروف على أيامها، ولا شأن لها البتة بالحروب الحديثة التي تنشب بين أمم مستكملة وعيها القومي، متمتعة بمستوى اجتماعي واقتصادي واحد، فدخلت تحت الاسكندر جميع الشعوب، وبينها مدن اليونان بالذات، وفي الوضع نفسه الذي عرفته هذه الشعوب، ودخلت تحت روما جميع بلاد البحر المتوسط وبعض أوروبا الشمالية، وبينها اليونان أيضاً وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا التي بدأت بالفتح الروماني وجودها السياسي، ومزق العرب ما بلغوه من الإمبراطورية الرومانية تمزيقاً، واستولوا على القسم الشرقي منها".

لذلك، ليس من الإنصاف أن يقارن الباحث بين بلدين، فيقصر المقارنة على فتوة أحدهما بشيخوخة الآخر، فلئن كانت اليونان قد عاشت مستقلة بشؤونها لسبعة قرون، وهي هذه القرون التي عرفتها قبل فقدها استقلالها في القرن الأول قبل المسيح، وبقائها بدونه حتى القرن التاسع عشر، فقد عاشت مصر مستقلة بشؤونها عشرات القرون التي عرفتها بين بناء الأهرام وقيام إمبراطورية الأسكندر.

 

الحقيقة هي أن التعليم لن يغني عن المتعلمين شيئا ماداموا لا يجدون في الحياة اليومية ما يتصل به من ظواهر يستطيعون بمعالجتها أن يطبقوا علمهم، وينموا ملكاتهم، ويرتفعوا إلى الابتكار وإن انتعاشة واحدة تصيب حياتنا الاقتصادية تستطيع أن تكسب هؤلاء المتعلمين ما يمتاز به أقرانهم في البلاد الأخرى، وما لا يستطيع التعليم النظري أن يزودهم به"

 



ويرصد الكاتب مفارقة لافتة فيقول: "وقد سقطت اليونان تحت الحكم الروماني فلم تقم لها قائمة بعد ذلك، وخبت حضارتها، ونسي أبناؤها معاني الحرية التي تنسب إليهم، إلى أن ذكرتهم أوروبا المسيحية بها في القرن التاسع عشر، في حين استطاعت مصر أن تنهض من كبوتها الرومانية، وأن تقيم إمبراطورية الفاطميين والمماليك، وتنتج حضارة جديدة، وتشغل مركزاً عالمياً ممتازاً". 

ويرى المؤلف أننا "قد أسرفنا ومازلنا نسرف على نفسنا من حين إلى حين في التفضيل بين ما ندعوه بالحضارة الشرقية والحضارة الغربية، والبحث في أيهما خير لنا من الأخرى، ورأي فريق منا أن لا مفر من الأخذ بالثانية، لأننا أصحاب عقلية غربية، في حين رأى الفريق الآخر أن لا مناص لنا من التمسك بالأولى، لأنها أقرب الحضارتين صلة بالفضائل الإنسانية، غير أن أصحاب الرأي الأول يلاحظون بعد ذلك أن العقلية الشرقية لم تمنع بلداً كاليابان أن تتخذ الحضارة الغربية وتنافس فيها، كذلك لم تمنع إرادة التمسك بالحضارة الشرقية المنادين بها من الرغبة في الأخذ بأسباب الحياة الغربية، أي اتخاذ الطائرة وسيلة للانتقال دون الدواب، والتمتع بالحكم النيابي بدل النظم التي كانت تحكم بها الدولة الأموية أو العباسية أو الفاطمية، أو ما سبق ذلك وأعقبه من دول قديمة".

من ناحية أخرى، استطاع صبحي وحيدة أن يصل إلى النتيجة التى عبر عنها هذا الكتاب، وهى أنه لا مخرج من الأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية إلا بحل المشكلة الاقتصادية، فكتب أنه ينبغي على مصر أن: "تقلع عن القنوع بنفخ الأوداج والضجيج الفارغ، وتواجه جوهر النقص فى حياتها، أي فقر الدم هذا الظاهر في أوصال مجتمعنا جميعا، بتنقيته وتغذيته وإنعاشه، وهو عمل يقع غالبه من دائرة النشاط الاقتصادي في الصميم".

بل حتى فيما يتعلق بمشكلة التعليم يرى أن إصلاح التعليم لا يكفي لإحداث النهضة المطلوبة، فيقول إن: "الحقيقة هي أن التعليم لن يغني عن المتعلمين شيئا ماداموا لا يجدون في الحياة اليومية ما يتصل به من ظواهر يستطيعون بمعالجتها أن يطبقوا علمهم، وينموا ملكاتهم، ويرتفعوا إلى الابتكار وإن انتعاشة واحدة تصيب حياتنا الاقتصادية تستطيع أن تكسب هؤلاء المتعلمين ما يمتاز به أقرانهم في البلاد الأخرى، وما لا يستطيع التعليم النظري أن يزودهم به".

اللافت أنه رغم مرور سبعة عقود على كتاب صبحي وحيدة، أن حلم وحيدة بأن تصبح الصناعة هي باب خروجنا من أزماتنا الاقتصادية لم يتحقق، ومع أن اقتصادنا لم يعد يعتمد على الزراعة مثلما كان الحال في عهده، إلا أنه من الواضح أن مصادر الدخل القومي الأساسية الجديدة في مصر من سياحة وتحويلات العاملين بالخارج وإيرادات قناة السويس هي رهن باستقرار الأوضاع السياسية في بلدنا وفي الإقليم الذي نعيش فيه، وقد عرفنا ثمن الاعتماد على هذه المصادر وخطورته مرات عديدة في الماضي، في منتصف الثمانينيات وفي التسعينيات من القرن الماضي وبعد ثورة يناير في سنة 2011، فضلا عن أننا لم ننجح في مجاراة ما أنجزته دول أخرى كانت أوضاعها الاقتصادية أسوأ من أوضاعنا ولكنها عرفت بجهود أبنائها كيف تنتقل إلى مصاف الدول الصناعية الجديدة وتصبح أطرافا مؤثرة في الاقتصاد العالمي مثل كوريا الجنوبية والصين والهند والبرازيل.

التعليقات (0)

خبر عاجل