الحرب على
الفساد في
تونس يستعر أوارها، والفاسدون يطيحون ببعضهم البعض ويمنحون بعض الصادقين أوراقا للانتصار، وقد يصل الأمر إلى الإطاحة
بحكومة الفخفاخ في ظرف سياسي عسير على البلد برمته، ولكن يبدو أنه حتى نجاح فريقه في مقاومة كورونا لن يشفع له.
وسنعود إلى هذا في ورقات قادمة، ولكن ما زالت زيارة الرئيس التونسي إلى
فرنسا والمواقف التي اتخذها من طبيعة الاحتلال الفرنسي لتونس؛ تتفاعل بدورها وتؤثر على تماسك المشهد السياسي، لذلك سنتابع بعض وجوه ما صار يسمى
بغزوة الرئيس لفرنسا، ولكن على مستوى قراءة المواقف الداخلية والانعكاسات المحتملة على المستقبل السياسي للبلد وعلى الرئيس نفسه.
تبادل الجمهور أو تغير الموقف الداخلي من الرئيس
انتقل كل خصوم الرئيس قيس (الذي كان بنظرهم داعشيا دسته
النهضة في المشهد) إلى زعيم تقدمي. في نفس الوقت انفض عن الرئيس عدد كبير من أنصاره، وخاصة ممن صوت له من أجل جملته التاريخية ولكن اليتيمة "إن التطبيع ليس جريمة بل هو خيانة عظمى".
الجمهور الذي انتقل إلى الرئيس بعد نفور هو جمهور يساري أو من زاعمي الحداثة، ممن كنا ولا زلنا نسميهم حزب فرنسا (التسمية الجزائرية المشهورة). وسبب التحول هو أن ظنهم أو رغباتهم تتجه الآن إلى أن موقع الرئاسة وسلطتها ستشتغل ضد حزب النهضة، العدو الأزلي. ومما زاد في سرعة الهجرة السياسية أو الانتقال هو أن مرشحهم السابق (نبيل القروي) الذي لم يزعجهم فساده يقترب الآن أو ينسق مواقفه السياسية مع حزب النهضة، وربما ينتظر على باب حكومة قادمة مع حزب النهضة. لقد صار أنصار القروي السابقون يتهمونه الآن بالفساد بعد أن كان عنوان الصلاح، ولم يعد الرئيس داعشيا مدسوسا من النهضة.
لكن ليس هذا فقط، بل إن أنصار الرئيس داخل الحكومة، وخاصة حزبا التيار وحركة الشعب، وقعوا في ورطة كبيرة بسبب
موقف الرئيس في فرنسا من الاحتلال.
ورطة القائلين بالسيادة قبل الزيادة
عاش التيار القومي العربي منذ نشأته في الخمسينيات (كتيار أيديولوجي متجاوز للخطاب العروبي العاطفي) حريصا على المسائل المتعلقة بسيادة الأوطان، وقد اتخذ دوما أشد المواقف تطرفا في ذلك، ويذهب في تحليلاته وتحديد مواقفه الظرفية إلى حد التضحية بالديمقراطية التمثيلية وبالحريات العامة دفاعا عن أنظمة تزعم حماية سيادة الأوطان، وتبرر تأجيل الديمقراطية بالوصول إلى التوازن الاستراتيجي مع العدو.
ومن نتائج هذا الموقف الأيديولوجي الدفاع عن النظام السوري والنظام المصري الانقلابي الذي سوق لدفاعه عن سيادة مصر في وجه الإخوان الخونة (السيسي هو عبد الناصر الثاني ووريثه). ونال حفتر حظوة عندهم لأنه واقف في هذا الصف (الوقائع التفصيلية غير مهمة، بما في ذلك الوجود الروسي في سوريا وليبيا).
هذا الموقف جعل القوميين في تونس يقفون بلا جدال مع
قيس سعيد صاحب مقولة الخيانة العظمى. فهم القائلون بحكومة الرئيس، ويعتبرون أنفسهم من أنصاره المخلصين، لكن صوتهم خمد بعد أن صار الاحتلال الفرنسي مجرد حماية قانونية مشروعة في تونس. لم تصدر بيانات دفاع عن السيادة المطعونة، فالطعنة جاءت من صديق، لذلك تكفلت السيدة النائبة سامية عبو (زعيمة التيار وقائدته الفعلية) بالدفاع عن موقف سعيد في البرلمان.
نفس النائبة كانت صوتت ونواب حزبها بالموافقة على لائحة مطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائم الاحتلال؛ التي تقدم بها في شهر حزيران/ يونيو ائتلاف الكرامة، وكان تصويتها متعاضدا مع تصويت حركة الشعب القومية. ما الذي تغير في المشهد لتتغير المواقف بسرعة في مسائل مبدئية؟
لوجيسيال ضد النهضة
وقفت النهضة موقفا غير واضح مع لائحة إدانة الاحتلال والمطالبة بالاعتذار، إذ انقسم نوابها بين متغيب (هارب) وموافق ومعارض. اتهمت النهضة حينها بمهادنة فرنسا لتسويق نفسها كشريك للاحتلال، فكان التصويت مع اللائحة فرصة لإدانتها واتهامها في صدق مواقفها، واستعادة كلام كثير عن عمالة الإخوان وتوابعهم، واستعيد شعار "الإخوان عملاء الإمبريالية".
وفجأة اتخذ الرئيس
موقفا أقرب إلى فرنسا من النهضة، فوجد أنصار خطاب السيادة أنفسهم في التسلل. لقد خذلهم الرئيس فصمتوا إلا سامية عبو، فلماذا عاندت بقية مكونات الحزب التي سكتت بدورها؟
لقد كان كلامها آخر ورقة متاحة للدفاع عن تحالف التيار وحركة الشعب داخل الحكومة، وداخل الكتلة الديمقراطية في البرلمان، فانفراط عقدهما يعني اختلافهما أيضا داخل الحكومة وتباعد موقفيهما البرلماني بما يعني تفكك حزام الحكومة السياسي، وهما أشد المتمسكين بحكومة الفخفاخ (حكومة الرئيس كما ذكرنا) فتكون النتيجة الحتمية المرتقبة دخول قلب تونس وخروجهما.
تحددت المواقف من اللائحة بناء على موقف النهضة المستراب، لكن موقف الرئيس وفريقه وأنصاره الجدد (حزب فرنسا) قلب المعادلة. لقد وجد القوميون أنفسهم في صف "حزب فرنسا".
هل كان الغنوشي على علم مسبق بموقف الرئيس من الاحتلال، وهو الذي اختفى من الرادارات في الساعات 24 التي تم فيها الحديث عن اللائحة؟
ليس لدي علم بعلمه المسبق بموقف الرئيس، ولكن الرئيس قدم له خدمة جليلة من حيث انتظر أو لم ينتظر.
لقد خرج الرئيس من صورة المعادي للاحتلال وأسقط من تلقاء نفسه السقف العالي لمقولة الخيانة العظمى على رأسه ورأس أنصاره، ولم يفعل حزب النهضة شيئا ليفوز بهذه الهدية، لقد نزلت عليه من السماء.
الرئاسة خارج اللعبة وأنصار الرئيس من داخل الحكومة (التيار والشعب) لا يجدون قدرة على استعادة خطاب السيادة في مواجهته، وكل مواجهة معه تجعلهم
يعودون إلى النهضة أو على الأقل يفقدون ورقة مهمة في معاداتها. إذا لا يمكن إدانة النهضة على موقف مستراب أمام موقف شديد الوضوح لا يرى الاحتلال الفرنسي سوى قوس حماية أغلق.
تتراكم كتابات كثيرة في تونس حول مصير حكومة الفخفاخ المتهمة بالفساد، وأعتقد أن ضربة كبيرة أصابتها؛ ليس من جهة شبهات الفساد حول رئيسها وبعض وزرائه (وهي بين أيدي القضاء)، بل من رجة موقف الرئيس من الاحتلال. فكيف يمكن لحركة الشعب أن تدافع عن حكومة الرئيس الذي نال من السيادة الوطنية عنوانه الأبرز؟ رصيد الفخفاخ عندهم هو أولا اختيار الرئيس له، فما وجاهة اختيار الرئيس للفخفاخ (الصامت بعد عن الحديث في موضوع السيادة) إذا كان قد اختير بناء على موقف الرئيس من الاحتلال؟ وكيف يمكن للتيار تسويق إيمانه بالرئيس بعد؟ هل يكفي إعلان الحرص على التحالف مع حركة الشعب لإحداث توازن ضد
النهضة في الحكومة وفي البرلمان كمبرر؟
في انتظار أحكام القضاء في ما اتهم به الفخفاخ؛ نراقب رقعة الشطرنج السياسي التونسية ونفقد قدرتنا على الإيهام بالتفاؤل. لقد فاحت رائحة الخيانة العظمى وانقشع غبار غزوة فرنسا عن هزيمة ماحقة.