كان يجب أن تعلن الاحتفالية الكبرى بخروج
تونس بأخف الأضرار من وباء كورونا وعودة الحياة فيها إلى سالف نشاطها، لكن.. هذه الـ"لكن" التونسية مؤلمة جدا لأنها تكشف أن شقا من التونسيين يرفض الفرح وينتج النكد والحزن، ويضيق على التونسيين آفاقهم ويدفعهم إلى الإحباط نواليأس.
لم نذهب إلى فرحة شعبية، ذهبنا إلى مرحلة جديدة من الخوف على مصير البلد. فحكومة السيد الفخفاخ تترنح وتوشك أن لا تتم سنتها الأولى إلا بمعجزة سياسية. وفي تونس نادرا ما تحصل المعجزات السياسية. لماذا تعاني حكومة الفخفاخ في زمن كان يجب أن تفخر بإنجازها في المجال الصحي؟ لدينا بعض التخمينات وننتظر معجزة لا تكون إلا في أحلامنا؛ ببلد مستقر ويعمل.
معركة البرلمان كشفت هشاشة الحكومة
قسمت عبير موسي البرلمان شقين، فقد حشدت معها كتلة نيابية كبيرة (96 نائبا) ضد
راشد الغنوشي، زعيم حزب
النهضة والعمود الفقري للحكومة، بحثا عن إدانة سياسية تنتهي بعزله عزلا مهينا. لم يكن هذا مستغربا منها، فقد دخلت البرلمان لخوض حرب ضد حزب النهضة وزعيمها. لكن المفاجأة جاءت من نواب الأحزاب المشاركة في الحكومة والتي أعلنت عداءها لشريكها فيها، وهي حزب تحيا تونس وحزب حركة الشعب وكتلة الإصلاح (خليط غير متجانس وفيها من شباب التجمع / حزب ابن علي)، وكلها ممثلة في الحكومة.
لم تمر لوائح الإدانة (لأن الرصيد النيابي لم يكن كافيا ولأن القانون الداخلي للبرلمان لم يسمح بأكثر من جلسة حوار بذيئة)، لكن حزب النهضة أعرب عن غضبه من ضعف التضامن الحكومي، وهو ما وضع الفخفاخ على كرسي طيّار.
لقد كانت هناك
وثيقة تضامن حكومي معروضة لإمضاء جماعي من كل مكونات الحكومة قبل جلسة الرابع من حزيران/ يونيو. بالنظر إلى ما ظهر من تنابز بين مكوناتها الحزبية، تأجل إمضاء الوثيقة، وقد لا تُمضى في قادم الأيام. فحزب النهضة لم يعد يثق في شركائه، لذلك سمعنا منه حديثا عن شروط ضرورية للعمل المشترك، وهو في وضع من يطلب إعادة تقدير وزنه في الحكومة لكي يصار إلى احترام وزنه في البرلمان أيضا.
يعرف السيد إلياس الفخفاخ أن حكومته قائمة بالنهضة لا ببقية الأحزاب التي تتعفف عن مشاركة الحزب الفاشي في الحكم، وتستنكف أن تجالسه في المعارضة إلا في التضامن
ضد الغنوشي وحزبه. كل الأحزاب المشاركة في الحكومة تعتمد على وجود النهضة في الحكومة في ذات الوقت الذي تحاربه في كل مكان. ويتذكر التونسيون أنه لولا موافقة النهضة على حكومة الفخفاخ لما قامت أصلا، ولصار البلد إلى إعادة انتخابات.
مقابل هذا الوزن السياسي والقانوني الواقعي لا يجد حزب النهضة اعترافا لائقا. فتمثيله الوزاري أقل من حجمه البرلماني، وتمثيله في الولاة مثير للسخرية (2 من 24 واليا)، بينما ما يزال ولاة حزب تحيا تونس يديرون البلد رغم أن حزبهم (تحيا تونس) لا يحوز على 10 نواب.
معركة البرلمان تدفع حزب النهضة الآن إلى موقف حاد وحاسم ستكون له انعكاسات على تركيبة الحكومة وعلى عملها؛ خلاصته ضرورة إعادة تركيب الحكومة والجهاز الولائي والمعتمدين بما يليق بوزنه الحقيقي. وهنا يوشك الفخفاخ أن لا يجد قبولا من بقية الطيف المشارك.
يوجد هنا موقف غريب من شركاء حزب النهضة، فهو صالح لحمل الحكومة على ظهرها لكن دون قبض معادل لعنائه، وهو ما سميته سابقا بالاستئصال الناعم. ويبدو أن معركة البرلمان وضعت حدا لهذا الدلال.
الغنوشي يمتص الصدمات ويناور
ظهر الغنوشي ليلة 8 حزيران/ يونيو في قناة نسمة المملوكة لنبيل القروي، رئيس حزب قلب تونس، ليطلق رسائل تهدئة، فهو لا ينوي الانسحاب من الحكومة ولا يشترط إقصاء الشركاء الحاليين، وخاصة حركة الشعب (وهي أفكار راجت بعد جلسة البرلمان)، وهي الرسائل التي ينتظرها الفخفاخ، لكن ماذا سيقدم للغنوشي مقابل رسائل التهدئة؟ فالرجل وحزبه ليسا متسولين على طريق السياسة.
يستشعر الفخفاخ وفريقه صعوبة التوفيق بين مكونات حكومته منذ البداية. وقد تحول الشعور إلى يقين بعد جلسة البرلمان وانكشف العداء المستحكم بين حركة الشعب والنهضة. وقد سمعنا من داخل فريق الفخفاخ حديثه عن أن حركة الشعب صارت عبئا على الحكومة وهو يفكر في التخلص من هذا الشريك المزعج، لكنه يبحث عن بديل له يضمن النصاب البرلماني لاستقرار الحكومة. هنا سيتحدد الثمن قبل نهاية السنة، حيث تصير رسائل الغنوشي للفخفاخ إمهالا لا تناسيا وتجاوزا.
هنا ينفتح باب مناورة كبيرة لإدماج حزب قلب تونس (مقابلة الغنوشي في نسمة تسبقة على الحساب). رغم أن الكتلة النيابية للحزب انقسمت، إلا أن القسمين يطمحان إلى المشاركة في الحكم.
كما أن هناك معطى مهما ظهر في الأثناء، وهو شكوك ترقى إلى اليقين في تورط يوسف الشاهد (حزب تحيا تونس) في ملفات فساد تتعلق بملفات الطاقة وتبييض عملة، وهذا زرع ريبة كبيرة بين حزب التيار وحزب تحيا تونس، ودفع التيار إلى التنصل من شراكته (الأخوية) مع الشاهد.
حزب التيار يبني سمعته السياسية على مقارعة الفساد، وهذا سر حرصه على وزارة الإصلاح الإداري، والآن يجد نفسه شريكا لحزب متهم ويضطر إلى المناورة بدوره، فيقترب من حزب النهضة الذي لا يرتاح ليوسف الشاهد، فضلا على أن التيار لم يشارك في التصويت ضد الغنوشي في الجلسة المشهودة، بما خفف حدة التوتر بينه وبين النهضة. فضلا عن ذلك، فإن التيار ورئيسه عبو لا يجدان ملفات فساد تدين القروي، فالجميع سكت عنه وبدأ الحديث على أن مكونات الحزب ليست رئيس الحزب. ماذا يعطينا هذا المشهد المضطرب الآن؟
حكومة مؤقتة في انتظار نهاية العام الدراسي
نتوقع بلا يقين أن حكومة الفخفاخ ستستمر بعد خطاب الغنوشي ليلة 8 حزيران/ يونيو، لكنها ستكون حكومة مؤقتة في انتظار تغيير. الشاغل الآن هو إنهاء العام الدراسي والامتحانات ثم إعادة ترتيب الدورة الاقتصادية بعد كورونا بالحد الأدنى، مع تناسي الاحتفال بالانتصار الطبي. عند نهاية شواغل الصيف سيكون هناك تغيير حكومي جذري يتخلص فيه الفخفاخ والنهضة من شريكهما المزعج (حركة الشعب).
سنشهد في الصيف تحريك الولاة ودخول ولاة من النهضة والتيار، وربما تمهيد لقلب تونس. ثم يصار إلى اعتماد كتلة قلب تونس لإسناد الحكومة القادمة مقابل صفقة سياسية مع القروي (وهو يعمل على ذلك لإنقاذ أمواله وسمعته)، والعمل على تحقيق طموحه المؤجل في الرئاسة.
في الأثناء وكما صرح الغنوشي، سيكون على جدول البرلمان أولوية تعديل القانون الانتخابي (ولديه الرصيد بعد) بما يقطع الطريق على عودة أكبر البقايا إلى البرلمان، ويقطع الطريق خاصة على تحالف محتمل بين حركة الشعب والرئيس سعيد لفرض تعديل يعيد بناء النظام السياسي برمته؛ يمكّن للرئيس/ الزعيم. فإذا تم تعديل القانون الانتخابي وفرض العتبة، فإن الأحزاب الصغيرة والشتات البرلماني سيندثر، وينفتح الطريق إلى انتخابات أخرى تعيد تركيب المشهد برمته.
في الأثناء ليس للفخفاخ إلا الاعتماد على النهضة من جديد ودائما، كعصب متين لحكومته، وأمامه فقط أن يحسن إدارة علاقته مع الغنوشي وحزبه. ليس مطلوبا منه أن يتذلل له ليبقى، ولكن من الحصافة إعادة تقدير دور حزب النهضة
ووزنه في استقرار المرحلة التي قد يخرج منها الفخفاخ على قصر قرطاج برصيد رئيس حكومة ناجح، وهي ورقة قد يقدمها له الغنوشي بنفس راضية.
في ما فهمنا من رسائل الغنوشي ليلة 8 حزيران/ يونيو؛ أن الأمور بخواتيمها، وأن لعب الأطفال في البرلمان يجب أن ينتهي.
في هامش كل هذا أو بالتوازي معه، فإن اندحار حفتر هو أيضا اندحار للمراهنين عليه داخل تونس، وفي مقدمتهم حركة الشعب. ويبدو أن على هذا الحزب الناشئ أن يستعد لتعلم أبجديات السياسة خارج الحكم.