عيناه فارغتان لا تكشفان،
لذلك لم نر انبجاس دمعة فرح ولا انفجار دمعة حزن ولا سورة غضب حمراء ولا انكسار
حنين جارف. عينان بلا لغة. عينان بلا معنى عينان ميتتان، عينان تواكلتا في القول
على لسان عيي يكرر عبارته، يحشو المترادفات، فيسمي شيئا واحدا بثلاثة أسماء في
جملة لا تنتهي؛ لأن الجملة الموالية لم تجهز على طرف اللسان.
الجملة ليست تأتي لأن النص
لم يكتمل في خلفية القول.. تأليف النص لحظة الكلام عبقرية نادرة؛ كان أحدهم يغطي
فقره منها ذات يوم بإفهام الحصا لمعناها، فيسد
الفراغات التي تخلقها الاستهانة بالجمهور الفاغر في انتظار معنى.
المعنى لم يعط معناه
للعينين فتعبرا عنه بدفق الانفعالات.. المعنى غاب ففرغت العينان من العبارة.
المعنى من الفكرة، والفكرة بقيت حبيسة الكراس المدرسي. الكراس لم يتعذب في الطريق
إلى المعنى، فجاء درسا باهتا حتى أنه ينسي البسملة، وقد كانت البسملة رقية للقلب
إذا وجف من رهبة أو انبهار.. كلام أبتر من قلب أبتر من عين فارغة تغطي فراغ المعنى
بالمترادفات.
فراغ المعنى من العين يفرغ
اللسان من العبارة.. بعض فراغ العبارة من فراغ العين من هدب وحاجب. الأهداب كما
الحاجب كما الشارب كما اللحية، تعطي سحنة فتخرج ذلك السطح اللحمي من لوح إلى محيا.
مسطح مثقوب لا محيا.. ثقوب تقوم مقام عين لا تشفق ولا تعشق، عين بلا أهداب، ثقب في
مسطح حوّر الزمن لونه فصار بلا لون، فلا شقرة الغرب ولا سمرة العرب أدمة بلا هوية
لونية.. عين فارغة بل عينان فارغتان..
العين الفارغة لا تشرق
بالمعنى، لكنها تُخَشِّب اللغة فتجرح الأذن المشتاقة لخطيب مفوه وخطاب سلس يمتح من
عربية القرون. تبحث الأذن عن تكملة المعنى بتخضل عين بشوق وعاطفة، فلا يخرج عليها
إلا الخشب يجرح الطبلة فتنفر من صوت احتكاك الكلام الحديد على صخر الاصطلاحات
المترادفة، في جملة بلا فواصل ولا استراحات تنفسية ولا نقطة نهاية.
هنا نضع نقطة نهاية للرجاء
ونقول للعين الآملة لا تتطلعي في فراغ، عين نسيت أن تبكي لأنها غفلت أن تسير في
مسارب المعنى..
ولذلك نخرج من الأمل إلى القنوط
فنكتب له شفقة، وقد نضب الود بعد خيبة.. لكن لعل النصيحة تصيب شتات روح.. فتؤلف
فقرتها الباهرة ذات خطاب: ارتخِ تَطْفُ فإنك إن لم تَطْفُ تَطْفَأ وتغمرك سيول من
تراب، وهذا اليم جارف.
ارتخ تُنِرْ فتَيَسّرْ فتَسِير،
فإذا أنت بشير لا نذير، واشرب زيتا على الريق سيفتح لك الزيت طريق الكلام إذ يذوب
البلغم. هل تعلّمت تنقيط الجمل؟ أم هل غنيت في ليالي الوحدة على البحر الطويل؟ لو
كنت على الرجز لجاء الكلام كبرد على سطح صقيل يتناثر.
ارتخ وارخ الحزام تلطفا،
فالهواء في بطنك قليل، املأ جنبيك بالهواء وقطع الجمل وضع فواصل، فنحن بقينا في
الجملة الأولى نبحث عن مسافة تفصل الفعل عن الفاعل، بينما وصلت فقرة أخرى ولم تعد
إلى سطر جديد.
هوّن عليك، فنحن نعشي
السوائم على حواف الزرع، حيث تعلمنا الصبر ندندن على البحر البسيط وقمرنا يبتدر، فنحسب
دوائر الضوء الشحيح على الماء الشفيف ونقول الليل طويل ونحن مقمرون. وقد نتفاءل فنظن
الليل ملكنا والسماء والأنجم؛ لأن نعاجنا اجترت وفاحت رائحة الحشيش. هل سرت خلف
القطيع يوما؟ هناك ولد الكلام قصائد وقلائد، واتضحت الرؤى وكتبنا باللغة الحبيبة.
في الغُدران تعلمنا السباحة،
فلما دخلنا البحر طفونا طفو العارفين بسر الماء، إذ نحلو فيرفعنا على رغوة الملح
الأجاج. وأنت يا سيدي تشد بطنك بحزام فييبس ظهرك فلا تطفو باللغة على بحر المعاني.
يخرج الكلام من قعر عميق كفوار من خشب كخشب الآكاسيا. واسأل الحطابين عن هذا الخشب..
هل عرفت حديث الحطابين عن نوع الحطب؟ إنه لغتك إذ تكبس فتنقطع عروقك.. ارتخ تطفُ،
فإن الماء حولك يسهل تحريك اللسان بالكلام..
ماء العربية لا يشح فبل
لسانك وشنف سمعنا بالخطاب.. سئمنا نص الدستور على لسانك حتى كأنه معجون خشب. جمع
مغنيك حول زهر الأقحوان في ربيعنا، وحول خطاب الحب في لغة الشباب، وحول صلاة
العجائز في الفجر يصلين لنجاح الولدان في المدارس. قل جملة طرية فيها ماء على
الريق تغزل قليلا، واكتب نسيبا في الشهيد الأخير.. قل أي شيء فيه روح.
أين أنت إذا نزلت سيول على
سهول، وفاضت أنهارنا بالطمي، وحسب الفلاحون عدد السنابل في المزارع وقالوا صابة من
صيب وغازلوا زوجاتهم؟ أين أنت من نهر لا يتبع الدساتير ولكنه يأخذ برأي الجاذبية،
فيسقي حيت تنبسط الحزون؟ أين أنت إذا علقنا نتائج المدارس ونظمنا احتفالات النجاح؟
أين أنت وقد خرجنا من كورونا على شعب ذكي يتقي الموت بالضحك الكثير والشماتة السمحة؟
أين أنت يا رئيسي؟ هلا تكلمت
بغير القانون المعجون في كراسك القديم؟ لنتفق أننا بشر أولا، وأن الدستور ليس ربا
للعبادة، إنما هو نص يأتي بعد وجودنا ليرتب قدراتنا على الضحك السعيد .. لقد
أوحشتنا يا سيدي، فاتق فينا ربا نصلي له معا في مساجد مجهولة.