هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ انتخابات 2018 عرفت حركة النهضة خلافات كبيرة بين قياداتها، وهي خلافات حاولت بعض التحليلات السياسية اختزال تعقيداتها في ثنائية نهضة الداخل/ نهضة الخارج (أي الانقسام على أساس التجربة السجنية في الداخل أو تجربة المنفى في الخارج)، أما بعض التحليلات السياسية الأخرى فقد مالت إلى ثنائية أخرى يتقابل فيها خط زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي (وهو الخط التوافقي والمطبّع مع المنظومة القديمة)، مع خط بعض القيادات النهضوية التي لا تعارض الخيار الاستراتيجي بدخول الدولة وعدم مواجهتها، ولكنها غير راضية على محصول التوافق ومنطق إدارة الخلاف/ أو الشراكة مع المنظومة القديمة.
يوم 11 أيار/ مايو الجاري أعلن المكلف بالإعلام في المكتب التنفيذي لحركة النهضة، محمد خليل البرعومي، أن رئيس الحركة قرر حلّ المكتب التنفيذي ليصبح مكتب تصريف أعمال. وبحكم سيطرة الأستاذ راشد الغنوشي على تركيبة المكتب التنفيذي، فإن هذا القرار كان مفاجأة للكثير من المتابعين للشأن التونسي. فالقانون الداخلي لحركة النهضة يعطي للرئيس الحق في اختيار أعضاء المكتب التنفيذي )28 عضوا وأربعة مستشارين وأربعة مكلفين بمهام ومقرر واحد)، ولكنه يشترط عرضهم على مجلس الشورى حيث "تتم تزكية أعضاء المكتب التنفيذي فرادى وحسب المهام المقترحة لهم وبأغلبية أعضاء مجلس الشورى الحاضرين، على ألاّ تقل هذه الأغلبية عن ثلث أعضاء المجلس".
في المؤتمر الأخير للحركة، مثّل انتخاب المكتب التنفيذي نقطة خلاف جوهرية بين الأستاذ راشد الغنوشي والعديد من القيادات النهضوية. وهو خلاف بلغ حدّ تهديد الأستاذ راشد بالانسحاب من قيادة الحركة إذا ما سحب المؤتمرون منه حق اختيار المكتب التنفيذي. ولأسباب تتعلق بموازين القوة داخل الحركة، نجح رئيسها في الإبقاء على القانون الداخلي كما هو، ومنع تعديله نحو انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي. وبصرف النظر عن مواقفنا من خيارات المكتب التنفيذي، يستطيع أي متابع للشأن الحزبي في تونس أن يلاحظ أنّ هذا المكتب يمارس منذ الثورة دورا أساسيا في صلب هياكل الحركة، ألا وهو تعديل قرارات مجلس الشورى أو نقضها (أو كما يقول المدافعون عنه: تعديل منطق قواعد الحزب وقياداتها الوسطى تبعا لإكراهات منطق الدولة).
لو أردنا صياغة الملاحظة الاستقرائية السابقة بصورة مختلفة، فإننا سنقول إنّ دور المكتب التنفيذي لحركة النهضة كان "تكييف" قرارات مجلس الشورى كي تتماشى مع التوجهات الكبرى لزعيم الحركة. وهو دور "رقابي" لا يمارسه المكتب التنفيذي على مجلس الشورى فقط، بل مارسه ضد إرادة كبار الناخبين في الحركة عندما اختاروا من يمثلهم في الانتخابات التشريعية. ولمّا كانت إرادة كبار الناخبين متعارضة مع إرادة زعيم الحركة، تدخل المكتب التنفيذي لسحب بعض الأسماء الوازنة في الحركة، إما بتغيير ترتيبها على رأس القائمة أو بتغيير مكان ترشحها، كما تدخل المكتب التنفيذي لوضع بعض الأسماء المحسوبة على خط رئيس الحركة في مراكز متقدمة ضمن القوائم المترشحة للتشريعية، رغم أن "كبار الناخبين" قد أثبتوا عدم شعبية تلك الأسماء داخل الحركة.
بناء على ما تقدّم من واقع سيطرة الأستاذ راشد الغنوشي على المكتب التنفيذي (فهو من اختار أعضاءه وهو من يملك حق تنحيتهم)، وبناء على الدور الكبير الذي مارسه هذا المكتب لخدمة رئيس الحركة وتمرير خياراته حتى عندما تُعارض خيارات مجلس الشورى أو كبار الناخبين، قد يكون من الضروري أن نبحث عن الأسباب العميقة التي تقف وراء قرار رئيس الحركة بحل المكتب التنفيذي "في إطار تقييمه لعمل المكتب وفي إطار التفاعل مع المستجدات"، كما جاء على لسان السيد محمد خليل البرعومي. فما هي هذه "المستجدات" التي يقتضي "التفاعل" معها حلّ المكتب التنفيذي؟
لأننا لا نزعم الإحاطة بكل الأسباب التي جعلت زعيم حركة النهضة يحكم سلبا على أداء مكتبها التنفيذي، يكفينا أن نبحث عن "المستجدات" التي دفعت بالأستاذ راشد الغنوشي إلى حل مؤسسة القرار العليا في الحركة. ويمكننا تقسيم تلك "المستجدات" إلى محورين: محور داخلي ( ملف تنظيمي) يتمثل أساسا في استحقاق المؤتمر القادم للحركة (المقرر مبدئيا عقدُه هذه السنة، ولا يسمح القانون الداخلي الحالي للنهضة بترشح الأستاذ راشد لرئاسة الحركة مرة أخرى)، ومحور خارجي (ملف الحكم) يتمثل في إدارة ملف العلاقة مع الحكومة ومع باقي مؤسسات الدولة والشركاء الاجتماعيين.
نظريا، نجد أنفسنا أمام فرضيتين قد تفسّران حل المكتب التنفيذي لحركة النهضة، وهما فرضيتان ستتضح صحة إحداهما عند معرفة الأسماء التي سيطرحها الأستاذ راشد للتزكية أمام مجلس الشورى. وتقوم كلتا الفرضيتين على وجود رغبة لدى الأستاذ راشد الغنوشي في تنقيح القانون الداخلي للحركة كي يتمكن من رئاستها بعد المؤتمر القادم، ولكنّ كل فرضية منهما تعكس استراتيجية مختلفة لتحقيق تلك الغاية.
فإذا اختار الأستاذ راشد لعضوية المكتب التنفيذي قيادات محسوبة عليه واستبعد كل القيادات المعارضة له، فإنه سيكون قد حسم الأمر وأعلن استحالة بناء توافقات داخلية قبل الذهاب إلى المؤتمر القادم للحركة. أمّا إذا ما رشّح الأستاذ راشد لعضوية المكتب التنفيذي أسماء تنتمي إلى "مراكز القوى" المتصارعة، فإنه سيكون قد نجح في بناء تسويات مع خصومه داخل الحركة. وهي تسويات ستكون لها انعكاسات كبيرة على تماسك الحركة، سواء على المستوى الداخلي (الوصول إلى توافقات أو تفاهمات فيما يخص بقاء الأستاذ راشد رئيسا للحركة بعد مؤتمرها القادم)، أو على مستوى تعاملها مع باقي مكونات المشهد الوطني (إدارة ملف الحكم، خاصة الخلاف مع رئيس الحكومة حول مفهوم "حكومة الوحدة الوطنية"، والخلاف مع رئاسة الجمهورية في مسألة النظام السياسي وتنظيم السلطات).
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية