قضايا وآراء

مكافحة الفساد في تونس بين الادعاء والواقع

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

سنة 2019، جاء في تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي شمل 180 دولة، أن تونس تحتل المرتبة 74 في مؤشر مدركات الفساد المالي والإداري المرتبط بالقطاع العام. وهو ما يعني تراجع تونس بمرتبة واحدة عن ترتيبها لسنة 2018 رغم محافظتها على الرصيد نفسه من النقاط (43 نقطة).

ومن المؤكد أن التونسيين لا يحتاجون إلى شهادة منظمة الشفافية الدولية وغيرها من المنظمات ذات الصلة بموضوع الفساد، للوقوف على ما تسببه هذه الظاهرة من خسائر كبيرة في مداخيل الدولة المالية وفي فرص الاستثمار الأجنبي في البلاد. ولذلك كان موضوع مكافحة الفساد من المواضيع القليلة التي حصل فيها "إجماع وطني"؛ يكسر الاستقطابات الأيديولوجية والحزبية المتحكمة في السجال العمومي منذ رحيل المخلوع يوم 14 كانون الثاني/ 2011.

لكنّ "الإجماع الوطني" حول ضرورة مكافحة الفساد يظل مفتقدا لـ"خارطة طريق" واضحة المعالم، وتكون محل اتفاق كتابي بين مختلف الشركاء، سواء داخل الائتلاف الحكومي أو خارجه (أي مع من يسمونهم بـ"الشركاء الاجتماعيين"، خاصة منظمة الأعراف والاتحاد العام التونسي للشغل). وبحكم غياب تلك الخارطة من جهة أولى، ونظرا لاستمرار الانقسامات الأيديولوجية من جهة ثانية، نلاحظ أن الإجماع الخطابي حول ضرورة مكافحة الفساد، سرعان ما يُفسح المجال لخلافات جذرية تخترق حتى أحزاب الائتلاف الحزبي الحاكم نفسه. وهو ما يضعنا أمام سبب من أهم الأسباب التي تعرقل أي تنزيل فعّال لمشروع مكافحة الفساد: عدم تجانس مكونات الحكومة واختلافها في تحديد معنى الفساد وآليات مواجهته.

لفهم طبيعة العطالة التي تعاني منها هذه الحكومة في موضوع مكافحة الفساد قد يكون من الجيد أن نرجع إلى حيثيات تشكيلها. لقد جاء تشكيل هذه الحكومة باعتباره الضرورة التي تمنع الذهاب بالأزمة السياسية إلى نهاياتها المنطقية، أي حل مجلس النواب والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكّرة. وبعد تكليف رئيس الجمهورية للسيد إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة، وجدنا أنفسنا أمام حزام حزبي غير متجانس، رغم سعي رئيس الحكومة المكلف إلى البحث عن "المشترك الحكومي" في الانحياز لاستحقاقات لثورة والاندراج في مشروع مكافحة الفساد من جهة أولى، والانحياز، من جهة ثانية، للرئيس قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.

لقد شكّل السيد الفخفاخ حكومته من أحزاب تغلب على مكوناتها الصيغة الأيديولوجية، سواء بصيغتها النسقية (حركة النهضة الإسلامية، حركة الشعب القومية)، أو بصيغة مخففة وغير نسقية (حزب التيار اليساري الاجتماعي، تحيا تونس التجمعية الدستورية).

ولعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن في تركيبة هذه الحكومة هو غياب "ائتلاف الكرامة"، رغم أنه يستجيب لكل الشروط التي وضعها السيد الفخفاخ "للمشترك الحكومي" (الانحياز للثورة، الانخراط في مشروع مكافحة الفساد، التصويت للسيد قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية). فمن منظور مكافحة الفساد لا يمكن أن نفهم كيف يُقصى ائتلاف الكرامة ويحضر حزب تحيا تونس أو وزراء من كتلة الإصلاح الوطني، كما لا يمكن أن نفهم كيف يمكن الحديث عن مقاومة الفساد بمشاركة طرفين على الأقل (هما تحيا تونس والنهضة) يعدهما شريكان آخران (هما حركة الشعب والتيار الديمقراطي) جزءا من منظومة الفساد بعد الثورة.

بصرف النظر عن التبريرات التي اعتمدها خصوم ائتلاف الكرامة لاشتراط إقصائه من الحكومة، وبصرف عن التبريرات التي قدّمها الائتلاف ذاته للقبول بالتموضع داخل المعارضة، فإن غياب هذا الائتلاف من حكومة "الشفافية والإنجاز" أو حكومة "الدولة القوية العادلة"؛ يجعلنا نقف أمام حسابات سياسية وتوازنات اجتماعية حالت دون إشراك أي طرف لا تربطه علاقات ودّية مع "الشركاء الاجتماعيين" (الأعراف ونقابة العمال) ومع "الشركاء الإقليميين والدوليين" (خاصة محور الشر الإماراتي السعودي، وفرنسا).

فالسيد الفخفاخ لا يريد (أو لا يستطيع) استعداء أولئك "الشركاء" باستهدافهم (مثل غيرهم) بمشروع مكافحة الفساد، ولذلك فإنه قد اختار حزاما حزبيا قادرا على بعث رسائل "طمأنة" لمختلف الفاعلين الكبار في الداخل والخارج، لكن دون التخلي عن سردية مكافحة الفساد باعتبارها مصدرا رئيسيا من مصادر الشرعية.

بحكم ما تقدّم ذكره من غياب"خارطة طريق" واضحة في مشروع مكافحة الفساد، فإن التعاطي الحكومي مع المسألة كان تعاطيا جزئيا أو موضعيا، إن لم يكن اعتباطيا وغير قادر على تغيير شيء في واقع الحال: تحول الفساد إلى ظاهرة بنيوية في أجهزة الدولة، بل اختراقه للحياة السياسية ذاتها بصورة تجعل من أي مشروع حكومي لمقاومته مشروعا متناقضا ذاتيا أو متهافتا منطقيا. إذ كيف يمكن محاربة الفساد الإداري والمالي (أي مواجهة الشريكَين الاجتماعيَّين ممثلَين في اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف) وكيف يمكن تعديل علاقة التبادل اللامتكافئ مع الغرب (خاصة مع فرنسا)، بواسطة طبقة سياسية لم يجمع بينها أي مشروع وطني للتحرر وبناء مقومات السيادة؟ طبقة سياسية هي في الأغلب الأعم صنيعة المال السياسي المشبوه، والحليف الموثوق لمراكز النفوذ الجهوية والمالية والأيديولوجية وللأطراف المستهدفة قبل غيرها بمكافحة الفساد؟

 

twitter.com/adel_arabi21

التعليقات (1)
هيمن الخطابي
الجمعة، 08-05-2020 11:46 م
تونس الشقيقة التي كان لشعبها شرف السبق في ثورات الربيع العربي، ما زالت تسعى لتأسيس مجتمع يكفل الحريات لمواطنيها ويحقق لهم العدالة، وما دام هناك فريق مازال مسيطر فيها يرى أن الوطنية هي في الطواف حول النصب الذي أقاموه في قلب عاصمتهم لبورقيبهم وهو يعتلي صهوة حصانه والتمسح به والسير في طريقه وعلى منواله، فالطريق أمامهم ما زال طويلاُ للتخلص من مسوخ فرنسا الذين يظنون أنهم ورثة المستعمر القديم، وبدلاً من أن ينقلوا عنها قيم الحرية والعدالة، يرون أن دورهم في الحياة هو ازدراء وتحطيم الهوية التونسية الأصيلة.