غرقان عرق
حلمي مرق
رغم الليالي والسهر
عمري انسرق
يا
مصر يا أم الشقيانين
خيرك لمين؟!
هذا السؤال الذي طالما تردد على ألسنة عمال مصر منذ الملكية وحتى يوم الناس هذا، فلم تك ثورة يوليو 1952 التي جاءت مبشرة بمبادئ ظنها
العمال أنها المنقذ لأوضاع طالما عانوا منها؛ بمنقذ، فالقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال، وإقامة العدالة الاجتماعية، شعارات طالما حملتها الحركة العمالية منذ أن نشطت في مصر بعد تأسيس أول نقابة عمالية عام 1899، كنتيجة طبيعية لنشأة
النقابات العمالية في العالم ونموها وتطلعها لإيجاد حلول اقتصادية وسياسية لمشكلات الطبقة العاملة.
كانت نواة الحركة العمالية في أواخر القرن التاسع عشر، من الفلاحين الذين هربوا من نير الإقطاع وسخرة الباشاوات وأعوانهم؛ من المنتفعين الذين كانت تحميهم السلطة التي حافظت على الطبقية في أبشع صورها، بالإضافة إلى الحرفيين الذين حلموا بكيانات تحميهم من الرأسمالية المتوحشة التي إن لم تلتهمهم احتوتهم ليكونوا ترسا في ماكينة صنع المال التي تملكها.
المفارقة أن العمال في مصانع محمد علي كانوا يساقون من الريف وأحياء القاهرة للعمل في المصانع مجبرين، ويعملون تحت رئاسة مديرين عسكريين عرفوا بغلظتهم وقسوتهم، وهو ما يكشف حقيقة تلك الدولة التي أسسها محمد علي وكان عمادها الجيش الذي تحكّم فيما بعد، أو ورث دولة محمد علي بنظمها وآلياتها.
ويروي رؤوف عباس في كتابه "الحركة العمالية في مصر" حال العمال في تلك الفترة، والتي تتشابه كثيرا مع ما عاشه ويعيشه العمال منذ ما يسمى بثورة يوليو وحتى اليوم، فيقول عباس: "لم تكن الأجور التي يتقاضونها ذات بال كما كان مديرو المصانع يخفضون الأجور لضغط النفقات، كما كانوا يؤخرون للعمال أجر عدة أشهر حتى يثنوهم عن التفكير في ترك العمل"!
مع ذلك لم يكن العمال ليستكينوا لهذه الأوضاع، فيسجل التاريخ أن أول اعتصام شهدته مصر كان في نيسان/ أبريل عام 1894، قام به عمال نقل القمح في بورسعيد طلبا لزيادة الأجرة. وتعاملت الحكومة في حينها بكل قوة مع قيادة الحركة وألقت القبض عليهم وعلى كثير من العمال، لتشهد مصر بعدها أول إضراب في كانون الأول/ ديسمبر 1899 واستمر حتى شباط/ فبراير 1900، والذي عرف بإضراب لفافي السجائر، ليكون الميلاد الحقيقي للحركة العمالية في مصر. وتتوالى المطالبات والاحتجاجات على ظروف العمل أو الأجور أو ساعات الراحة، لتتطور المطالبات العمالية من الفئوية إلى المطالبات الشعبية السياسية، وينخرط العمال مع الطلبة والمحامين في العمل الشعبي المقاوم سياسيا أو عسكريا من خلال الانخراط في صفوف النضال المسلح ضد المحتل، وهو ما يرسم الصورة الحقيقية لتلك الحركة المباركة ودورها في المجتمع، كواحدة من أهم خطوط الحماية المجتمعية ضد الظلم الاجتماعي.
وفي ظل محاولات التدجين والاحتواء التي مارسها نظام يوليو وحتى اليوم، والتي تمثلت في استخدام الجزرة والعصا أكثر، وقصر التمثيل على الاتحاد العام للنقابات العمالية والحرص على أن يكون على رأسها من يقوم بهذا الدور متخذا تعليماته من الأمن، إلا أن النقابات المستقلة كانت متنفسا، إذ استطاعت أن تفلت من قبضة النظام وأمنه ورجاله داخل النقابات العمالية الموالية للنظام والمنفذة لسياساته، والتي تحولت من المعبر عن حقوق العمال وآمالهم إلى المتحدث الرسمي باسم الحكومة ومنفذ سياساتها. فاستطاع العمال أن يقدموا التضحيات بعيدا عن ذلك الاتحاد الضرار، وكان لهم دور لا يمكن إنكاره منذ حركة أبريل في المحلة وحتى اندلاع ثورة يناير.
لكن النظام بقبضته الأمنية الوحشية استطاع أن يقمع الحركة العمالية، غير أن التاريخ يقول إن هذه القبضة لن تدوم، ولن يرضخ العمال لأطماع النظام ورجال أعماله الذين يرون في العمال أداة لتكوين الثروات وملء الكروش. فلقد كشفت أزمة كورونا الأخيرة عن الوجه الحقيقي للنظام الذي باع العمال للرأسماليين المتوحشين، والكل يريد حلب البقرة وتوزيع خيراتها، ولا عزاء لهذه الطبقة التي حملت على عاتقها كل أزمات البلاد، فإن كان الجندي يضحي عندما تندلع المعارك، فالعامل يضحي كل يوم من أجل هذا الوطن، ولن يسمح لهذا النظام أن يستعبده بعد أن صرخ في يناير.. عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.