"السماء تمطر أموالا"، لم تعد تلك العبارة محض مجاز في عصر
كورونا، ولا دربا من خيال مؤلف للتدليل على شحذ همم هنا أو توصيف واقع بائس من التخبط هناك، وإنما باتت أحد السيناريوهات المطروحة على طاولة العم سام، للخروج من عنق الزجاجة التي فرضها الوباء الوافد من أقصى الشرق.
الأمر ليس مزحة على الإطلاق، بل على العكس تماما في ظل كفاح الولايات المتحدة لتجنب هزة
اقتصادية عنيفة، على غرار تلك التي ضربت مفاصل سوق المال في أمريكا في ثلاثينيات القرن الماضي، في ما عرف آنذاك بالكساد الكبير، حيث يعمل خبراء المال على وضع تصورات لتفادي
ركود عظيم مماثل يلوح في الأفق المنظور.
الطرح وإن كان نظريا في المقام الأول، ولم يسبق أن وجد موطئ قدم على أرض الواقع، غير أنه دون شك الملاذ الأخير، وهو طرح قدمه رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي السابق، بن برنانكي، قبل نحو 18 عاما، وتحديدا في العام 2002.
لكن دعونا لا نستبق الأحداث نحو حلول نظرية يزخر بها جراب الحاوي، بل ربما يخفى ما هو أكثر، بالنظر إلى المكانة الرفيعة للاقتصاد الأقوى في العالم، إلى جانب التعلم من الهزات التي تعرض لها تبعا، والتي توالت دون مبالغة مع كل عقد، لا تلبث أن تحصد الأخضر واليابس.
وهنا لا بد من الإجابة على أحد أكثر الأسئلة إلحاحا في تلك المرحلة المفصلية التي يمر بها العالم، والتي يرقبها الرأسماليون من وراء نوافذ العزل المنزلي: هل اقتصاد أمريكا قادر على الصمود في وجه إعصار كورونا، أم إن العالم على وشك انهيار قوى عظمى عانت كثيرا من أعراض الشيخوخة لتفتح الباب أمام قوة جديدة؟
حديث تلوكه الألسن ويتناقل بين الجموع من الخبراء إلى الدهماء، إلا أنه مخطئ من يظن أن اقتصاد أمريكا بتلك الهشاشة، أو أن حقيبة رجل المال خاوية من أطروحات يمكنها أن تنقذ الموقف، أو على أقل تقدير تضخ حقنة مسكنة في عروق سوق المال، حتى حين.
فلاش باك
الذاكرة البعيدة وربما القريبة أيضا، التي تتحدث عن عواصف عاتية مر بها الاقتصاد الأمريكي، بل على نحو أكثر قسوة من مجرد ركود عارض طال أو قصر، يمكنها الرد على علامة الاستفهام المحيرة تلك بكثير من الإسهاب، حتى دون التطرق إلى سيناريوهات الخروج الآمن.
هنا عام 1929، قبل نحو 100 عام، وبعد تعافٍ جزئي من أزمة موجعة في 1893، التاريخ يعيد نفسه ولكن بإيقاع أعلى صخبا، حيث شهدت الولايات المتحدة أزمة اقتصادية طاحنة، في ما عُرف بـ"
الكساد الكبير"، الذي امتد إلى نحو 4 سنوات، ليصل إلى محطة 1933، في مأساة لم ينج منها أحد. وبين العامين كانت الرواية السوداوية، دولة بأكملها تعيش واقعا خانقا، خسائر تقارب 30 مليار دولار، إنه "الخميس الأسود"، حيث خسر مؤشر "داو جونز" الشهير ما يقارب 50 في المئة من قيمته، ولم يعد لمستواه إلّا بعد مرور أكثر من 20 عاما.
الضربات لم تتوقف هنا، ومن تشرين الأول/ أكتوبر 1929 إلى تشرين الأول/ أكتوبر 1987، انهيار جديد يضرب سوق الأسهم، والأوضاع تخرج عن السيطرة، وشبح الكساد يخيم مجددا. داو جونز يسقط بنحو 22 في المئة، إنه "الثلاثاء الأسود" هذ المرة، وهذا خروج آخر يقود إلى أزمة جديدة، فرضتها بقسوة أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، على وقع انهيار بعض الشركات، ليتمدد الحال إلى اضطرابات في الاقتصاد العالمي.
ولم يكد اقتصاد أمريكا يجد ممرا نحو الضوء، حتى أطل شبح نكبة أيلول/ سبتمبر 2008، أو ما عُرف بـ"أزمة الرهن العقاري"؛ انهيار يضرب سوق الأوراق المالية في كارثة مالية هي الأسوأ منذ كساد العشرينيات، ليطلق جورج بوش الابن نداء التحرك الفوري لإنقاذ عالم على وشك الانهيار.
المحطات الأربع دون إغراق في تفصيل، عكست تعافيا أمريكيا من الضربات، بل والأكثر مرت الولايات المتحدة بنحو 32 حالة ركود منذ منتصف القرن الماضي، والركود بطبيعة الحال يختلف في الاصطلاح عن الكساد. وإلى محطة كورونا يبدو اليوم يشبه البارحة، ربما إلى حد التطابق، غير أن دونالد ترامب يبدو لم يستوعب درس الماضي جيدا، وهو الذي يطرق أبواب ولاية ثانية قد لا يصل إليها.
مشهد ضبابي
الرئيس المتهم بالتخبط من قبل قطاعات واسعة في بلده، اعترف بأن الاقتصاد الأمريكي قد يتأثر سلبا من تفشي كورونا، لكنه توقع تجاوزه في نهاية المطاف ودافع عن طريقة تعامله مع الأزمة، وذلك في ندوة نظمتها فوكس نيوز في إطار حملته لانتخابات 2020.
تحرُّكُ ترامب المتأخر، الذي استنفد الكثير من الوقت في سجال عقيم مع منظمة الصحة العالمية، قبل أن يوقف التعامل المالي معها في عقاب يمتد أثره إلى ربوع العالم، جاء على وقع مطالبة الكونجرس بالموافقة على حزمة مدفوعات للتحفيز والإنقاذ بقيمة تريليوني دولار. نحن إذن أمام مساعدات مباشرة هي الأعلى في التاريخ، من أجل امتصاص التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا، لكن مساعي الرئيس الجمهوري اصطدمت بحجر الديمقراطيين.
ربما إذن المأساة تفوق العادة هذه المرة، فبحسب دراسة استقصائية أجرتها الجمعية الوطنية لاقتصاديات الأعمال، بالرجوع إلى 45 خبيرا، جاءت التوقعات بانخفاض النمو الاقتصادي بمعدل 2.4 في المئة في الربع الأول من عام 2020، ويصل إلى 26.5 في المئة في الربع الثاني، مقابل ارتفاع في معدل البطالة إلى 12 في المئة بحلول منتصف العام، بفقد خمسة ملايين وظيفة، ما يؤثر على الإنفاق، وهو المحرك الرئيسي للاقتصاد، حيث يمثل الإنفاق الاستهلاكي حوالي 70 في المئة من النمو الاقتصادي.
هل الصورة سوداء إلى هذا الحد؟ ربما لا تكون الإجابة آنية، ولكن مررنا بالكثير من التقلبات والصدمات التي مر بها هذا البلد الأقوى، وخرج منها، بل ربما كان المخرج هنا في بلاد العرب، من حرب الخليج إلى غزو أفغانستان مرورا بإسقاط العراق، وصولا إلى صفقات سلاح هنا وهناك بمليارات الدولارات، قد تحمل في طياتها مآلات الأزمة، وإرهاصات التعافي.
عود على بدء
هل تذكر الحديث عن تساقط أموال من الهليكوبتر، حيث مروحية تحلق في الهواء، وترمي الأموال على الجميع؟ إنه السيناريو الذي شكل استهلال المقال، الذي قد يحمل إجابة أخرى لعواقب اقتصاد العم سام، حيث توفر الحكومة الأموال مباشرة للمستهلكين من أجل إنفاقها، إلا أنها لا تدفع ثمنها عن طريق الاقتراض، ما يزيد من هوة العجز، وإنما يتم دفع ثمنها من قبل الاحتياطي الذي يطبع النقود. إنها نظرية لم يسبق أن طبقت من قبل، ولكن يمكن أن تطبق إذا لم تنجح إجراءات الاحتياطي الفيدرالي حتى الآن.
مقترح يُخلف عدة أطروحات، في ظل تحركات البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لعلاج الركود الاقتصادي، حيث انخفاض أسعار الفائدة إلى ما يقرب من الصفر، والإعلان عن شراء غير محدود للسندات، فضلا عن ضخ المزيد من السيولة في الأسواق المالية.
وعمد البنك الفيدرالي إلى شراء أوراق تجارية مدعومة بالرهن العقاري، لكن ماذا يحدث إن لم يكن هذا كله كافيا للخروج من عنق الزجاجة، وتجاوز الآثار المخيفة لهذا الوباء الوافد من أقصى الشرق، وجسم بظل ثقيل على أسواق المال العالمية؟
وسط تلك المخاوف، حاول الفيدرالي الأمريكي اتخاذ خطوات استباقية، مع الحديث عن شراء الأسهم الفردية كذلك، حيث يحتاج البنك المركزي تغيير القانون للسماح بذلك. كما أن أسعار الفائدة السلبية، هي سيناريو آخر، لجأت إليه البنوك المركزية الأخرى، ويبدو أن الفكرة أعجبت ترامب، رغم استبعاد رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، هذا المسار إلى حد كبير.
"لا نرى أن أسعار الفائدة السلبية من المرجح أن تكون استجابة سياسية مناسبة هنا في الولايات المتحدة"، تصريح باول يقود إلى أدوات أخرى غير تقليدية يمكن أن يستخدمها الاحتياطي الفيدرالي، مستفيدا من نص المادة 33 من قانون الاحتياطي الفيدرالي، التي تمنح سلطات الطوارئ للبنك المركزي. ويقول خبراء إن ذلك يشمل سلطة الإقراض المباشر للشركات التي تضررت من الصدمة الاقتصادية لفيروس كورونا، كما يشمل أيضا برنامج إقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة جاري التنفيذ.
فوائد كورونا
اللافت في الأزمة، أنها ربما أرجأت صداما بين الصين وأمريكا، كاد ينذر بأزمة اقتصادية لا مالية هذه المرة. والبون شاسع بينهما، فالأولى أزمة سوق المال بحتة وهو السوق الموازي للسوق الاقتصادي، ولا أثر لها على الناتج القومي، حيث تنحصر نتائجها على المضاربين في الأوراق المالية، أما هذه الأزمة فستصل إلى مرحلة تضم الكساد.
هذا الكساد كان يوما عنوان صراع أمريكي شهير، خلال انتخابات عام 1980، عندما وصف رونالد ريجان انكماشا اقتصاديا عانت منه الولايات المتحدة بأنه كساد، ليهاجمه منافسه الجالس في البيت الأبيض، جيمي كارتر، باعتبار المصطلح غير دقيق، وإنما هو ركود.
رد ريجان الساخر مازال يتردد في الآذان: "حسنا إذا كان ما يريده كارتر هو التعريف الدقيق للمصطلح، سأعطيه واحدا، الركود هو عندما يفقد جارك وظيفته، أما الكساد عندما تفقد أنت وظيفتك، بينما الانتعاش هو عندما يفقد كارتر وظيفته".
ما تمر به الولايات المتحدة حاليا يمثل حلقة في مسلسل متواصل منذ نشأة البلد الاقتصادي الأهم في العالم، صعودا وهبوطا، ما بين جديد يذكر وقديم يعاد. إذن لا معنى للحديث عن انهيار أمريكي في عصر كورونا، بالنظر إلى قوى عظمى ربطت العالم بأسره في طوق الدولار، إن غرق أخذ الجميع دون استثناء إلى القاع، وهو ما لن يحدث، على الأقل في القريب، ولكن ربما يمهد إلى تحالفات عالمية جديدة.