كأي جائحة وبائية تحدث في العالم، تنتج في الغالب عنها أزمات اقتصادية تكون سببا في تغيير استراتيجيات الدول، لكن جائحة
كورونا ليست كمثيلاتها من
الأوبئة؛ لأنها كشفت في أسابيعها الأولى عن خلل كبير في المنظومة
الرأسمالية التي تتحكم في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991. ففي الوقت الذي عجزت الولايات المتحدة، رأس حربة النظام الرأسمالي عن مقاومة فيروس كورونا، أعلنت الصين الشيوعية نجاحها بالسيطرة على الفيروس ووقف انتشاره.
فهل سيكون كورونا سببا في تشكيل نظام عالمي جديد؟
بعد المعارك الكلامية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووصفه فيروس كورونا بالفيروس الصيني، ورد "ليجان زاهو"، نائب رئيس إدارة المعلومات بوزارة الخارجية الصينية
في تغريدة له، لفت فيها لاحتمالية أن يكون الجيش الأمريكي هو من جاء بفيروس كورونا الجديد "كوفيد-19" إلى منطقة "ووهان" في الصين.
وما نشهده اليوم من فشل المنظومة الصحية التي لم تصمد في العديد من الدول الرأسمالية في مواجهة فيروس كورونا، ما استدعى نزول القوات المسلحة في العديد من الدول لمواجهته، لكن دون جدوى، فلم تفلح التقنيات العسكرية للدول الرأسمالية الكبرى من وقف انتشاره والحد منه، فاستسلمت بعض الدول ورفعت الرايات البيضاء، فنرى رئيس وزراء بريطانيا يخاطب شعبه: استعدوا لفراق أحبائكم، ونشرت الصحف الألمانية أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
حاول إغراء شركة دواء ألمانية بعد إعلانها القيام بالتجارب السريرية للقاح محتمل لكورونا.
بعد كل ذلك، يأتي السؤال: هل سيتسبب فيروس كورونا بحرب عالمية ثالثة ليست للسيطرة واستنزاف للموارد، ولكن للحصول علي العلاج من أجل البقاء؟
فجندي صغير لا يرى بالعين المجردة احتل مدنا كبيرة وأحدث رعبا عالميا وفرض حظر التجول والتعبئة العامة، وترتب عليه خسائر اقتصادية ناهيك عن الخسائر البشرية، بل أعلن غياب التضامن الدولي واختفاء التحالفات السياسية والمعاهدات الدولية والاتفاقيات الاقتصادية. فها هي إيطاليا تشكو من تخلي الاتحاد الأوروبي عنها وقت الجائحة، وتشكر دولا خارج الاتحاد للوقوف بجانبها، كتركيا بعد إرسال الأخيرة مساعدات طبية لمواجهة الجائحة، وكذلك نرى الشعب الإيطالي يستبدل العلم الصيني بعلم الاتحاد الأووربي، بعد إرسال الصين أطقما طبية لمساعدة إيطاليا، ناهيك عن
إرسال الصومال المصنفة من أفقر دول العالم، أطقما طبية للمساهمة في وقف انتشار الفيروس.
هل أسقط وباء كورنا ورقة النعي الأخيرة للنظم الرأسمالية؟
بعد إغلاق الدول حدودها، وإعادة خطوط التماس العالمية بين الدول، قد يتحول الواقع الدولي؛ فالعدو قد يمسي حليفا والصديق يتحول إلى خصم وعدو. ومن المحتمل أن تسقط اتفاقية "الجات" التي أصبحت بلا مفعول، وكذلك أصبحت منظمة التجارة العالمية أيضا بلا دور، بعد أن كشف فيروس كورونا عن حقيقة الرأسمالية المتوحشة.
فلو رجعنا للتاريخ سنرى أن الحرب العالمية الأولى أثمرت عن منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، كمجلس الأمن الدولي، والحرب العالمية الثانية أنتجت مؤتمر "بريتون وودز" وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وفي عام 1971 قام الرئيس الأمريكي "نيكسون" بربط عملات دول العالم أجمع والاقتصاديات العالمية بالدولار، وبهذا أصبحت الولايات المتحدة المهيمنة على الاقتصاد العالمي بعملتها "الدولار"، ويليها الاتحاد الأوروبي بعملته "اليورو". لكن ما جاء به فيروس كورونا "واقع جديد"،
كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: "العالم ما بعد كورونا ليس كما قبله".
وقد يتم إلغاء العديد من الفعاليات للمنظمات الدولية، وكذلك ستجد أجهزة الاستخبارات الأمريكية صعوبة في الالتقاء بعملائها في العديد من المناطق، وقد تخرج العديد من أنظمة الحكم الاستبدادية من طور الدور الوظيفي لها، وتبحث عن بديل يساعدها بحماية عروشها. وكذلك
قد ينتهي الدور الوظيفي للدولار كعملة ارتكاز عالمية وحيدة، مما سيؤكد حقيقة فشل
النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الذي قادت العالم منذ 1991 بعد سقوط الاتحاد السوفييتي دون أن تطلق رصاصة واحدة علي أراضيها. فها هي الولايات المتحدة اليوم يقتحم العدو أراضيها من دون جرس إنذار، ولم تستطع آليتها العسكرية ولا خططها الاستراتيجية ولا إنتاجاتها الفكرية مجابهة عدو خفي، أصغر من أن يُرى بالعين المجردة.
كذلك ترى
مجلة فورين بوليسي أن جائحة كورونا شأنها شأن أحداث مفصلية في التاريخ، كسقوط جدار برلين أو انهيار بنك ليمان براذرز، حيث نشرت المجلة توقعات 12 عالما ومفكرا بارزا من مختلف أنحاء العالم، سنستعرض أبرز 3 منهم.
تحول السلطة من الغرب الي الشرق:
يرى "ستيفن والت" أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفاد الأمريكية، أن جائحة كورونا ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، وأن الحكومات في مختلف أنحاء العالم ستتبنى إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة. كما توقع أن يسرع انتشار الوباء من وتيرة تحول السلطة من الغرب إلى الشرق، واستدل على ذلك من قيام دول شرقية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة بمواجهة كورونا بصورة أفضل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، كما شوهت الهالة الوهمية التي لطالما أحاطت بالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
لكن أكد "والت أن أزمة الوباء لن تسهم في تغيير السياسة العالمية السائدة التي يطبعها الصراع، ودلل على ذلك بأن الأوبئة التي مرت على البشرية من قبل لم تضع حدا للتنافس بين القوى العظمى، ولم تكن نقطة بداية لحقبة جديدة من التعاون الدولي.
نهاية زمن العولمة:
أما "روبن نيبليت" المدير التنفيذي لـ"تشاثام هاوس" المعهد الدولي للشؤون الدولية، فيرى أن الجائحة قد تكون القشة التي قصمت ظهر العولمة الاقتصادية، لأن الحكومات والشركات والمجتمعات ستسعي لتعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزل الاقتصادي الذاتي، ومن المستبعد في ظل كل ما سبق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة، التي اتسم بها مع بدايات القرن الحادي والعشرين.
من سينتصر سيقود العالم:
أما "جن آلن" مدير معهد بروكينجز، فيرى أن المنتصرين في المعركة ضد فيروس كورونا هم من سيتسنى لهم كتابة التاريخ، لأن الدول كافة باتت تعاني من الإجهاد المجتمعي الناجم عن انتشار الفيروس بطرق جديدة وقوية، وأن الدول التي تنجو بفضل نظمها السياسية والاقتصادية والصحية الفريدة، هي من ستفوز على الدول التي خرجت بنتائج مختلفة ومدمرة في معركتها ضد كورونا.
وأشار آلن إلى أن النظرة لما ستسفر عنه المعركة ضد كورونا ستتراوح بين من يرى فيها انتصارا حاسما للديمقراطية والتعددية والرعاية الصحية الشاملة، ومن يرى فيها دليلا على الفوائد الجلية للحكم الاستبدادي الحاسم. كما توقع "آلن" أن فيروس كورونا سيؤدي لتراجع النشاط الاقتصادي وزيادة التوتر بين الدول، ما يؤدي إلى عدم الاستقرار وإلى نزاع واسع النطاق داخل بعض الدول وفيما بينها.
لقد أثبت فيروس كورونا للعالم أجمع أنه من الضروري مراجعة النظام الرأسمالي الناتج عن الحرب العالمية الثانية، بعد ثبوت عجز دول صناعية كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا عن توفير أبسط الحاجيات لإنقاذ مواطنيها، ما دفع العديد من الأصوات الغربية في الدول الكبرى الحديث عن دولها كأنها أصبحت كدول العالم الثالث، بعدما عجزت عن تقديم العلاج لجميع مواطنيها، مثل إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، التي بدأت تستنجد بدول العالم لتقديم الدعم لها. فنجد الصومال أفقر دول العالم ترسل مساعدات لإيطاليا بعد أن تخلت عنها دول الاتحاد الأوروبي. فمن الممكن أن نستنتج مما ذكر أننا على مشارف نظام عالمي جديد، أو على أقل تقدير سيحدث تغير محوري في التعاون الدولي، وستتغير خريطة السيطرة والصراع مع تغير وسائلها.
#
عالم_ما_بعد_الجائحة