هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يُعرف بأنّه رائد الدراسات الموريسكية ومُحققُها، فقد حَمل على عاتقه ما أسماها بـ "أمانة نفض الغبار عن فجيعة محاكم التفتيش الإسبانية" وضحاياها من المهجّرين قسرا خارج الجزيرة الأيبيريّة، منذ إشرافه على المؤتمر الدولي الثاني للدراسات الموريسكية المنعقد بتونس سنة 1983.
يفتخر المؤرخ عبد الجليل التميمي، أوّل تونسي يحرز دكتوراه دولة في التاريخ، سنة 1972 من جامعة "إكس أون بروفانس" الفرنسيّة، بأنّه مُعرّب الدّراسات التاريخيّة بالجامعة التونسيّة وأنّه أحد المستثمرين القلائل في المعرفة على صعيد الوطن العربي، حيث أنشأ سنة 1985 بمدينة زغوان، 50 كلم جنوب العاصمة تونس، مؤسسته البحثية الخاصة "مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية والتوثيق والمعلومات" قبل أن تتحول سنة 1995 إلى "مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات"، التي يُنسب إليها إنتاج أضعاف ما تُنتجه الجامعة التونسيّة من بحوث ودوريات محكّمة في التاريخ المعاصر.
الصحفي والإعلامي الحسين بن عمر، يثير في الحوار التالي، الذي أجراه خصّيصا لموقع "عربي21"، مع المؤرخ عبد الجليل التميمي جملة من أسئلة الفكر والبحث والسياسة، مستطلعا رؤيته لأفق التجربة السياسيّة التونسية ومكانة المثقف فيها، كما يبحث معه وضع البحث العلمي التونسي ومكبّلات توظيفه لخدمة التنمية المجتمعيّة والاقتصاديّة.
في زمن التحوّلات السياسيّة الكبرى والمتسارعة، التي استتبعت ما يسميها الكاتب المغربي محمّد الطلاّبي بموجة الربيع الديمقراطي، التي عصفت بدول عربيّة عدّة، وتونس على وجه الخصوص، منذ الرابع عشر من كانون ثاني (يناير) 2011، ونظرا لارتكان أهم الفاعلين السياسيين في المشهد السياسي التونسي في اللحظة الرّاهنة، حكما ومعارضة، إلى خلفيات سياسية ومراجع فكريّة كانت تشكّل ولا تزال، نواة الحكم العربي وتخومه منذ خمسينيات القرن الماضي، من مدارس قومية وإخوانيّة وأخرى بورقيبيّة، يكون من المفيد الاستئناس بقراءة مرجعيّة أكاديميّة وفكريّة في قيمة المؤرّخ عبد الجليل التميمي، لعمق تجربته البحثية المخضرمة بين بغداد وإسطنبول و"أكس أون بروفانس" فضلا عن تجربته الأكاديميّة المميّزة بالجامعة التونسية والتي توافقت مع فترة تولّي الوزير والمفكّر الرّاحل محمّد مزالي مقاليد وزارة "التّربية والتّعليم العالي والبحث العلميّ" آنذاك.
الحاجة الماسّة للاغتراف من مرجعيّة علميّة في قيمة المؤرخ عبد الجليل التميمي، تبررها القراءة الهيغيلية للتاريخ، مسرح الجدليّة البناءة، التي ترى فيه مسارا كاملا يعبّر عن التقدّم من خلال الشعور بالحريّة، وهو ما يجعل من مساءلة التاريخي وتقاطعات دفاتره، استشرافا لمستقبل الساحتين الفكريّة والسياسية للمنطقة العربية أكثر منه نبشا في ماضيهما.
لم يخف التميمي على "عربي21" شعوره بالإحباط بعد تجربة بحثيّة وأكاديميّة فاقت النصف قرن ونيف، بدأت بالنبش في إرث مخطوطات الامبراطورية العثمانيّة بإسطنبول، بداية ستينيات القرن الماضي، وانتهت به إلى قناعة راسخة بأنّ البحث العلمي في تونس لم يغادر بعد مربّع الاستقراء، في ظلّ تواصل ضعف الإمكانات المادّية المرصودة من قبل الحكومات المتعاقبة، والتي لم تتجاوز مربّع 0.1 بالمائة من مجموع الميزانيات السنويّة، في الوقت الذي ترصد فيه نسبة 4 بالمائة من ميزانيتي الكيان الصهيوني واليابان لذات الغرض.
لحوالي ساعة من الزمن، جالسنا التميمي في تواضع العلماء وهو يمازحنا بين الفينة والأخرى ويستحث فينا الاهتمام بتاريخ العرب والمسلمين بالأندلس، المفترى عليه، وينبش في طيات الملفات المنسيّة مذكّرا في كلّ مرّة بأنّه لا يبغي إلا الحقيقة التاريخيّة بعيدا عن التوظيفات السياسية للأحداث التي ما فتئ يستمرؤها معظم باحثو التاريخ، أو ما تسميه الفيلسوفة حنا أرنت بـالعنف القائم على الأداة التأويليّة التي يوظفها رجل السياسة بغاية التحكم والإخضاع، فكان هذا الحوار:
س ـ بداية، شكرا أستاذ التميمي على التفضّل بالمحاورة، ودعنا نبدأ بآخر المستجدات السياسيّة والأمنيّة في كلّ من ليبيا والجزائر فضلا عن مساعي تشكيل حكومة الحبيب الجملي في تونس، كيف تقيّم المنجز السياسي التونسي بعد 9 سنوات من الثورة؟
ـ بغض النظر عن موقفي من مجمل الطبقة السياسيّة الحاكمة، فإنّ الناظر للتجربة التونسيّة من منظار خارجي، وهذا ما لمسته من خلال لقاءاتي المتكررة مع النخب السورية والتركيّة والعراقيّة، فإنّ الثورة التونسيّة، رغم بعض العثرات، تبقى التجربة الديمقراطيّة المميّزة والمغرية في المنطقة العربيّة، فقد صمدت طوال مخاض التأسيس، وذلك رغم تجنّد إعلام "العار" ولوبيات المال والسياسة التي مثلت قوى جذب للوراء باعتبار ارتباط مصالحها مع المنظومة القديمة. وفيما يتعلّق بالجزائر فإنّي لا أخفي إعجابي بالحراك الشبابي السلمي المتواصل، ففي نجاح الحراك الجزائري تثبيت للتجربة الديمقراطيّة في تونس.
س ـ ما لذي يجعلك تتحفّظ على سلوك الطبقة السياسيّة الحاكمة؟
ـ لا أخفيكم استيائي من معظم الطبقة السياسيّة الحاكمة منذ 14 كانون ثاني (يناير) 2011، وأنا أحمّل بالمناسبة، القيادة السياسيّة والمجتمع المدني خيانة الثورة وعدم الدّفاع عنها، لقد تركت الثورة الشبابيّة التي انطلقت من حنايا الشعب فريسة للّوبيّات المحليّة والدّولية الذي تفاجؤوا بسرعة إسقاط المنظومة البائسة، ولا أنس كيف صاحت بي ابنتي، وهي لم تتجاوز عقدها الثالث حينها، بضرورة مساندة ذلك الحراك الديسمبري الرائع، فأين النخب الحاكمة من ذلك الطموح الشبابي إلى التغيير الحقيقي؟
س ـ طيب، وأنت المؤرّخ الذي تمتدّ تجربته العلميّة إلى ستين سنة من البحث الأكاديمي، هل من خيط ناظم يربط محاولات التغيير المتكررة التي راكمها الشعب التونسي والتي أفضت إلى هذا الحراك الشبابي الدّيسمبري؟
ـ دعني أذكّر قراءكم المحترمين بأنّي كتبت في الثورة التونسيّة، وأصدرت صائفة 2015 كتابا سمّيته "مساهماتي في توثيق الثورة التونسيّة"، هذا فضلا عن تنظيم ملتقيات بعنوان "مرصد الثورة التونسيّة" والذي دعونا إليه مجمل الفاعلين السياسيين من بينهم راشد الغنوشي والراحل مصطفى الفيلالي وأحمد بن صالح وأحمد المستيري وغيرهم كثير.
وجوابا عن سؤالك فإني أعتبر أن ما يجمع الانتفاضات المتكررة والتي أجهضها نظاما بورقيبة وبن علي هما قوّة العسف والعنجهيّة الأمنية اللتان جوبهتا بهما نخبة حركة "آفاق" اليساريّة أواخر ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، والذين دعتهم المؤسسة لمنبر الشهادة التاريخيّة وأصدرت كتابا يوثق شهاداتهم، واعتبرت أن بورقيبة والصياح يتحملان مسؤولية التعتيم على هذه النخبة النيرة التي غيرت حركية العالم في تلك الفترة، لقد قصفوا حياتهم وساموهم سوء العذاب وقد قمت بدعوة الطاهر بلخوجة وزير داخليّة بورقيبة في تلك الحقبة السوداء لمنبر الشهادة التاريخيّة.
نفس العسف لقيه عناصر الحزب الدستوري القديم، الذي كان يقوده عبد العزيز الثعالبي، الشخصية الفذة التي قامت بدور كبير في مؤتمر فلسطين والذي كان مبهرا في حديثه، ولن أنس ما تعرّض له الحبيب شلبي الذي كان يهاتفني باكيا نتيجة ما كان يلاقيه من ظلم. وبالمناسبة دعني أنبئك بشهادة تاريخيّة، تذاع لأوّل مرّة، كان قدّمها لي أحد عناصر الحزب الدستوري، فبمناسبة عقدي لملتقى حول فرحات حشاد، فاجأني ضيف شيخ وقد أمسكني من يدي قائلا لي "سأسرك بأمر، عند عودة الثعالبي من المشرق وزيارته لمدينة ماطر، ناولني الحزب الجديد، كان يقوده بورقيبة، مسدّسا وكلفني باغتيال الثعالبي، ولكن من حسن حظي وقتها وحظ الثعالبي أنّي تراجعت في آخر لحظة عن تنفيذ القتل". هذا دون ذكر عذابات اليوسفيين الذين دعوتهم لمنبر الشهادة التاريخية بالمؤسسة وأشعر بالألم عند تذكّر شهادة غرس الله في الغرض، وكذلك القوميين والإسلاميين طيلة حقبتي بورقيبة وبن علي.
للأسف تاريخنا أظلم بالعذابات والمقاومة السلمية التي مثلت خمائر الثورة التونسيّة التي أبهرت العالم بسلميتها. أنا أملك حوالي 1800 ساعة تسجيل عن عذابات كل الطوائف السياسية.
س ـ إذا كانت هذه الشهادات التاريخية صادمة للمؤرخ، فماذا تراها فاعلة لو اطلع عليها القرّاء؟
ـ أنا نفسي، المؤرخ والمدقق في الوثائق والشهادات من تاريخنا المعاصر، وحين تعمقت في هياكل دولة بن علي، أدركت فعلا أن هذه الثورة هدية من الله الذي أنقذ الشعب التونسي من الوضع المتردي والتعذيب، ومن المهم التذكير بأنّ الشاذلي العياري، المحافظ السابق للبنك المركزي التونسي، وبعد أن اقتنى كتاب "إرهاب الدولة في قضية براكة الساحل" الصادر عن مؤسستنا، قال لي حرفيّا أنه لم يكن يتصور أن الوضع كان متردّيا لتلك الدّرجة، حيث تفاجأ بحالة الارتباك والعبث الإداري والخور الذي كانت عليه دولتا بورقيبة وبن علي. نفس الشيء، الباهي الأدغم لما قرأ كتابي عن يوسف الرويسي قال لي "هداك الله لم أنم ليلتي من هول ما ذكرته في كتابك عن يوسف الرويسي مؤسس مكتب تونس بالجامعة العربية بمدينة دمشق.
لذلك أقول مجددا إنّ هذه الثورة لم تنقذ فقط تونس، بل أنقذت كامل العالم العربي، لقد نبّهت ثورتنا العالم العربي إلى أن الإدارة العربيّة متخمة ولا تستحق أي شيء، وبالتالي نبهت العرب إلى ضرورة تغيير سلوكياتهم وإلى ضرورة إدراك أنّ للشعوب كلمتها وفعلها في التاريخ مهما طال سباتها.
س ـ لكن أليس في كل ما ذكرته تبخيسا مبالغا فيه للتجربة البورقيبيّة وما بناه من مشروع مجتمعي كما يسمّيه أنصاره؟
ـ أبدا، بورقيبة أبتلي بالنرجسية، رغم كوني ألّهت دفاعه التارخي عن استقلال موريتانيا، وإنّه من المؤسف أن يغيّب المتكلّمون باسمه مساوئه التي لا تعد ولا تحصى، فهو من قتل بن يوسف وفعل الأفاعيل النكراء في أنصاره، وإنه من المهم التذكير بأنّ نرجسيّة بورقيبة أوصلته إلى احتقار مؤسس الحزب الدستوري القديم عبد العزيز الثعالبي، وجعلته لا يستقبل المنجي سليم عند عودته من خطاب الأمم المتحدة، لشعوره بأنه اختطف منه الأضواء حينها، مما جعله يغيبه ويحتقره وهو حي.
ومن المفيد التذكير كذلك بأن بورقيبة كان أوقف عديد الدوريات لكونها لم تكن تسبح باسمه. وأعتقد أن تونس كانت تزخر بعديد الشخصيات الوطنية التي كانت أكثر استحقاقا من بورقيبة، فبورقيبة هو عين التزييف. ومحمّد الصيّاح الذي كان يمثّل بوقا لحكم بورقيبة، وبمناسبة دعوته للشهادة التاريخية، قدّم اعتذاره عما مارسه من تطبيل لبورقيبة، وقال لي أنت أرجعت الثقة للتونسيين.
بورقيبة كان صنيعة فرنسا في السجن. عاش في أريحية. وكل القيادات الفرنسية كانت تفضله على بن يوسف وكانت تقول "هذا متاعنا" وتنادي بضرورة المحافظة على بورقيبة قبل الاستقلال.
س ـ لكنّك لم تجب عن مشروع بورقيبة المجتمعي ؟
ـ عقدت مؤسسة التميمي سبعة مؤتمرات عربية ودولية عن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بالإضافة إلى تجميع قائمة طويلة من الشهادات لسياسيين ونقابيين وأساتذة جامعيين ورجالات الثقافة والأعمال والصناعات والديوانة والحرس الوطني والجيش التونسي، في إطار التأريخ للمرحلة المظلمة من تاريخ بورقيبة، وهذا ما يجعلني أقر بأنّ بورقيبة، وإن نجح في إرساء معالم الدولة المدنية على أساس ضرب العروشية والجهويات، إلا أنّ مشروعه المجتمعي كان مشروع فرنسا ولم يفهم أن المجتمع تغير ولم يعرف متى ينسحب من المسار السياسي، وهذا هو لعمري أكبر خطأ ارتكبه بورقيبة في حقه وحق الشعب التونسي.
فقد كان بورقيبة ضد الديمقراطية ولم يؤمن بأن الديمقراطية هي بداية الطريق مفوّتا بذلك على تونس فرصة تركيز تجربة ديمقراطيّة. في عهده ترعرعت مافيات التهريب وعائلات معروفة بنفوذها اليوم. وكبيرتهم وسيلة رغم أنها كانت ذكية فاعلة وتهندس الدولة، وقد منحها بورقيبة كلّ الصلاحيات لذلك.
كان بورقيبة ضد الديمقراطية ولم يؤمن بأن الديمقراطية هي بداية الطريق مفوّتا بذلك على تونس فرصة تركيز تجربة ديمقراطيّة.
لكن للأمانة التاريخية فإنه من المهم الإفصاح عن عديد المعلومات الحصرية التي أملكها والتي تخص موقف بورقيبة من حادثة اغتيال فرحات حشاد، فقد توصّلت بمراسلاته والتي تفيد تألمه وحسرته على اغتيال الزعيم حشاد.
س ـ أين الجامعة التونسيّة من كلّ هذه المتغيّرات المتسارعة التي يعرفها البلد؟ هل كانت فاعلة في صناعة اللحظة الثورية الرّاهنة؟
ـ أعتبر نفسي من بناة الجامعة التونسيّة، لكن يؤسفني بأن أفصح أنّ الطابع الفرنكفوني قد غطى على كل شيء، ومستوى الجامعة منحط باستثناء مستوى الرسائل الجامعية، كنت أشرفت على مناقشة رسالة دكتوراه "مسارات البحث الجامعي من الاستقلال إلى تاريخ 7 تشرين ثاني (نوفمبر) 87" وأنجزها الباحث وحيد قدورة وبيّن أنّ المصاريف ذهبت سدى نتيجة تعيينات غير مستندة إلى مقاييس علميّة.
من المؤسف القول بأنّ الجامعة التونسيّة كانت تضمر نزعة مشطّة لكلّ ما هو شرقي، مثلما كان يصرّح بذلك بورقيبة في العلن، حيث كان يقول بأن إيطاليا أقرب لتونس من الصحراء الليبية وأن مرسيليا أقرب إليه من بغداد !
ويكفي العودة لآخر تصنيفات شنغهاي، حيث تستقر جامعاتنا في أسفل الترتيب بسبب غياب الاستراتيجيا البحثيّة. الجامعيون التونسيون طالما لا يتقنون الأنجليزية فسيبقون مجهولين، وقد أضاعوا على تونس فكرة التعلّق بوهج التألق الحضاري في العالم.
س ـ ألا يخفي موقفك السلبي هذا موقفا ذاتيّا، خاصّة إذا علمنا أن مجموعة من 60 جامعيا قد نشروا بيانا، في نيسان (أبريل) 2018، يستنكرون فيه بعض تصريحاتك التي تخص ملف الحقيقة والكرامة؟
ـ أنا مؤرخ مختص ومؤسستي نشرت بحوثا علميّة محكّمة في التاريخ المعاصر أكثر ممّا أنتجت الجامعة التونسيّة، حيث نشرنا 255 كتابا، وأنا إلى ذلك أوّل تونسي يحصل على شهادة دكتوراه دولة في التاريخ من فرنسا وكان ذلك في شباط (فبراير) 1972، أتقن وأجيد ثلاث لغات وهي الفرنسية والإنجليزية وخاصّة اللغة التركيّة بوصفي أول من تعلم اللّغة التركية من العرب منذ سنة 1966، ولست في موقع المتباهي عندما أصرح بأنّ الجامعة التونسية فقدت قيمتها، فقط من المؤسف أن أقول أنّ سياسة الحسد هي من تحرك معظم الجامعيين لكوني أول تونسي مستثمر في المعرفة ولكوني أنشر ثلاث دوريات علمية محكّمة، لقد حوربت لأني ناديت بأنه آن الأوان لأن نكتب تاريخ الحركة الوطنية بالعربية، وكل القيادات الجامعية كانت لا تؤمن بذلك فحاربتني.
س ـ فكيف دخلت الجامعة إذن؟
ـ محمد مزالي هو من تدخل لصالحي كي أتمتع بحقي الطبيعي في التدريس بالجامعة، وكان ذلك بقرار وزاري لما كان على رأس وزارة التّربية والتّعليم العالي والبحث العلميّ. ولازلت أحتفظ بقراره لأنهم رفضوا انتدابي بالجامعة لأني حامل لإجازة من العراق ورغم كوني ناقشت أطروحة الدكتوراه في فرنسا. كنت أطلعت مزالي على رسالتي وأعلمته بأني كنت أول عربي يتاح له الإطلاع على الوثائق العثمانية وكنت تعلمت اللغة التركية وأجدتها. وقلت له بأن هؤلاء المتفرنسين لا يؤمنون بالشرق بل يحتقرونه، وهنا من المهم التذكير بقول الراحل محمد الطالبي الذي كان يقول "أقم على هذا المشرق مأتما وعويلا فهو لايعول عليه".
وعلى خلاف بورقيبة، فمزالي كان صاحب مشروع فكري وهو ما اعتبرته باني الدولة الوطنية. بورقيبة كان صاحب مشروع صحيح لكنه مشروع تغريبي فرنسي. ومن أسباب إقالة مزالي هو ما قاله بورقيبة نفسه من أنه "كثرلها بالتعريب" (أي بالغ بالتعريب).
س ـ ماذا عن استقلاليّة البحث العلمي؟
ـ أنا أعتبر أنّ الأسس الجوهرية لانطلاق الجامعة تمرّ حتما عبر استقلالية البحث العلمي، ومن المخزي فعلا أن تكون نسبة البحث من الميزانيّة لا تتجاوز 0.1 بالمائة، في الوقت الذي يخصص فيه كل من الكيان الصهيوني واليابان نسبة 4 بالمائة من ميزانيتهما. لذلك أقول بأن البحث العلمي هو الرجل المريض على المستوى التونسي والعربي.
استقلالية البحث العلمي هي جوهر تطوره وريادته، والدولة البيروقراطية التسلطية هي التي حالت دون تطوير البحث العلمي وهي من ترفض إعطاء الحق للأستاذ الجامعي، والامتحان الحقيقي لاستقلالية الجامعة التونسية، والذي فشلت فيه، هو عدم أخذ قرارها بيدها فيما يتعلق بتدريس اللغة الأنجليزية. هذا أهم من موضوع التبعية للسلطة السياسية، فعدم اتقان اللغة الأنجليزية هو سبب معطل للبحث العلمي.
س ـ هل يمكن الحديث عن تطوير للبحث العلمي خارج إطار المغرب؟
ـ بالضبط، فقد سبق أن نظمت 6 مؤتمرات عن موضوع المغرب، وقد أرقني كثيرا هذا المبحث فناديت بتوحيد المناهج المدرسية باعتبار الجامعة هي قاطرة الوحدة في المغرب وناديت بالمتاحف المتنقلة، وللأسف فالمتفرنسون في تونس والجزائر والمغرب هم من أعاقوا سيرورة العمل الوحدوي.
س ـ وماذا عن حوار الحضارات بين المشرق والمغرب؟
ـ من المهم التذكير بأنّي كتبت، منذ 1992، ثلاثة رسائل إلى ملك اسبانيا خوان كارلوس، أناشده فيها القيام بخطوة تعترف بموجبها إسبانيا عن سنوات الجمر والتهجير القسري واللاإنساني الذي حصل للموريسكيين، ويؤلمني أنّي وجدت نفسي وحيدا في المطالبة بهذا الحق التاريخي للعرب والمسلمين المهجرين من الجزيرة الآيبرية بين القرنين السادس عشر والسابع عشر ميلاديّة، والذين فاقوا النصف مليون مهجّر.
ناديث كثيرا باستتباب الحوار الحضاري والمعرفي بين المشرق والمغرب، ونشرت مئات الدراسات، إلاّ أنّ الحركة السياسية في المشرق غطت على كل هذه القضايا، فلا الجامعة العربية قامت بواجبها ولا اهتمت لذلك، بل وعطّلت هذا الحوار، ولا الألكسو ولا حكّام العرب الذين يواصلون استثمار أموالهم في إسبانيا دون التجرؤ على المطالبة بهذا الحق. ولذلك أقول إنّ الحديث عن حوار الحضارات بعيد المنال.
س ـ ماهي الشروط الضرورية الواجب توفرها لتفعيل الحوار بين المشرق والمغرب؟
ـ لا بدّ من خلق حركية تواصلية بين الجامعات في المشرق والمغرب تكون القاطرة الحقيقية لهذا التعايش والحوار المرتقب، ومن المؤسف التذكير بأنّ العرب لا يقرؤون فقرائي هم من الأمريكيين والأوروبيين، في حين لا أملك اشتراكات لا في ليبيا ولا في مصر ولا في سوريا ولا في العراق. فالعرب لا يقرؤون مثلما قالها من قبل موشي دايان، وإنّي لأشعر بالإحباط فعلا من السياسيين ومن رجال الأعمال الذين يتجاهلون جهدنا المعرفي.
س ـ أخير أي دور للمثقف في تحقيق شعارات الحشود الثورية؟
ـ من الواجب أن يكون الباحث أو المثقف حرا وأن يكون مستقلا وأن يكون رائده الحقيقة، وهذا ما فعلته وقد أدركت فعلا أن البحث العلمي حر أو لا يكون، وفي تونس لدينا قامات فكرية كبيرة على غرار المفكّر هشام جعيّط المتخصص في العصور الإسلامية الأولى والذي كتب مقالا جيدا ينقد فيه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ولكنه بعد ذلك لم يبرز كقيادي فكري وبقي منبتّا عن الفعل السياسي. المفكر والمثقف يجب أن يكون في تواصل مع الحراك السياسي لا منبت عنه.