لا يبدو هناك وعي كاف في
تونس لدى الرأي العام حول الضرر الكبير للسياسة الفرنسية في الجارة
ليبيا؛ على الوضع الامني التونسي. ومن الواضح أننا في حاجة لتقييم شامل للسياسات الفرنسية في المنطقة وأثرها السلبي على أمننا الوطني، كطرف تونسي وكمكون مغاربي في المنطقة. وعموما، نحن إزاء تشبث فرنسي خفت بعض الشيء سنتي 2011 و2012 وعاد للصدارة؛ يؤكد على استراتيجية خارجية ترى أن الاستقرار في المنطقة العربية وأفريقيا يمر بـ"حكم الرجال الأقوياء" (strongmen rule)، بمعنى آخر: مستبدين أوتوقراطيين. ويبدو ذلك جليا في الدعم المستمر والثابت الفرنسي لعسكري مارق على حكومة معترف بها دوليا، مثل
حفتر، ولكن أيضا في استتباعات ذلك على المنطقة، سواء في جهود تقويض الديمقراطية أو أيضا إعادة انتشار
الإرهاب.
كانت نقطة الاحتكاك المباشرة، بلا ريب، بين الدعم الفرنسي لحفتر والأمن التونسي؛ هي إيقاف فرنسيين على الحدود منذ أسبوع يشتبه في تورط في دعم حفتر. وقد نقلت وسائل إعلام تونسية نهاية الأسبوع الماضي، نقلا عن "مصدر أمني مطلع" دون ذكر هويته، أن
أكثر من 10 مسلحين فرنسيين تحت غطاء دبلوماسي كانوا يتوجهون نحو الحدود التونسية. تصرفُ الأمن التونسي (إدارة الحدود والأجانب تحديدا) معهم بحذر كبير، ورفضُ مرورهم بهذه الصيغة، يعكس على الأرجح شكوكا من قبل الأمن حول صفتهم.
ورغم محاولات بعض الصحفيين التعرف على تفاصيل أكثر، بقيت السلطات التونسية متكتمة لبضعة أيام على ذلك، حتى يوم الثلاثاء، حين أقرت تصريحات وزير الدفاع بكشف السلطات التونسية وتصديها لعناصر فرنسية، عسكرية واستعلاماتية، على الأرجح داعمة لحفتر، ومحاولة هذه العناصر اختراق الحدود التونسية في سياق خلق الفوضى في الجانب الليبي، لكن تصدى الجيش والأمن التونسيين لها.
الحديث ليس عن مجموعة فقط، بل عن مجموعتين؛ الأولى كانت قادمة من ليبيا عبر البحر لم يتم الإعلان عنها سابقا (جنسيات أوروبية)، والثانية، والتي تم تسريب خبرها نهاية الأسبوع (فرنسية حصرا)، كانت قادمة برا.
وقال وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي لوسائل إعلام تونسية؛ إن البحرية التونسية اكتشفت يوم الأربعاء الماضي زورقين مطاطيين كانا يحاولان عبور الحدود البحرية إلى تونس، وعلى متنهما 11 شخصا من جنسيات دول أوروبية ولديهم جوزات دبلوماسية. وأوضح الوزير أن البحرية التونسية رصدت الزورقين وقامت بتسليم المجموعة للسلطات المعنية، وتمت مصادرة السلاح والذخيرة التي كانت بحوزتها.
وفي ما يتعلق بالمجموعة المسلحة الثانية، بيّن الزبيدي أن 13 فرنسيا دخلوا الحدود التونسية قادمين من ليبيا يوم الأحد الماضي على متن ست سيارات رباعية الدفع، ورفضوا تسليم السلاح الذي كان بحوزتهم. وأكد المتحدث أن هذه المجموعة دخلت كذلك تحت غطاء دبلوماسي، وقد تم تأمين الأسلحة والذخيرة التي كانت بحوزتهم، مشيرا إلى أن كل الأسلحة والذخيرة التي كانت لدى المجموعتين تم تأمينها في ثكنة بنقردان في ولاية مدنين. ونوّه وزير الدفاع الوطني بمجهودات الوحدات العسكرية ومجهودات الديوانة التونسية والمؤسسة الأمنية في حماية حدود البلاد، وأشار إلى أن كل حدود تونس البرية والبحرية والمجال الجوي مؤمَنة ومراقبة.
في المقابل، وفي نفس اليوم،
أصدرت السفارة الفرنسية بلاغا رسميا تقدم فيه رواية مخالفة وغير منطقية، حيث تدعي أنه "حدث تنسيق مسبق مع السلطات التونسية". وأصدر السفير الفرنسي يوم الخميس بيانا ثانيا يؤكد فيها أن المعدات المحجوزة تتبع السفارة في ليبيا.
الحقيقة أن مؤشرات دعم
فرنسا وعلمها بهجوم حفتر عديدة، من بينها منع فرنسا وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي من إصدار بيان للدعوة لوقف الهجوم. وأكثر من ذلك، هناك أخبار عن مصادر متقاطعة عن أن مستشارين عسكريين ينشطون في الميدان داخل ليبيا، بما أدى إلى إعلان حكومة الوفاق وقف أي صفقات مع فرنسا.
للتذكير، فقد كشف مصدر عسكري ليبي لـ"
عربي21" عن
قيام طائرات بدون طيار فرنسية بقصف أهداف لقوات حكومة الوفاق الليبية في محيط طرابلس، وذلك في إطار دعم باريس لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر التي تشن هجوما على العاصمة. وقال المصدر، إن الطائرات الفرنسية قصفت تجمعات لمقاتلين تابعين للحكومة المعترف بها دوليا في محيط طرابلس، مستهدفة موقعين مختلفين. وأشار إلى أن الطائرات الفرنسية قصفت على مدار الليلة الماضية، تجمعا لعربات مسلحة في مدينة تاجوراء التي تبعد حوالي 11 كيلومترا شرقي العاصمة، بعد قصف مماثل نفذته لكتائب مسلحة في محيط وادي الربيع، وهي المنطقة التي تمكنت قوات الحكومة من طرد مقاتلي حفتر منها خلال الساعات الماضية. ولفت المصدر إلى أن تقديرات ميدانية تشير إلى أن الطائرات الفرنسية يجري تسييرها والتحكم بها من مركز عمليات متحرك في محيط مدينة غريان، جنوبي العاصمة طرابلس.
الدعم الفرنسي لحفتر هو بالأساس تهديد للاستقرار في لييبا، إذ يعمق الفوضى، ويخلق فرصة لعودة الدواعش الذين طردتهم القوات التابعة لحكومة طرابلس من صبراتة وسرت. وأبرز مثال على ذلك، هجوم داعش على منطقة الكفرة في سياق انشغال الجميع بما يحدث في المنطقة الغربية. ومن الواضح أن إعادة الإرهابيين في صبراتة أو زوارة، أي من النقاط القريبة من الحدود التونسية، هو تهديد مباشر للأمن التونسي، خاصة أن العديد من العناصر التونسية التابعة لفرع داعش في ليبيا هربت مع البقية إلى جنوب الصحراء الليبية، في انتظار اللحظة المناسبة للعودة.
إضافة إلى ذلك، فإن المجموعات المسلحة التي التفت حول حكومة الوفاق لمواجهة التهديد المشترك لحفتر؛ بعضها يمكن أن ينزلق ويعيد علاقاته القديمة مع السلفية الجهادية. أتحدث هنا أساسا عن مجموعتي "النواصي" و"قوة الدعم المركزي"، وكلتيهما من الميول السلفية المتشددة. وهنا لا نعني مجموعة عبد الرؤوف الكاره، المسماة "الردع الخاص"، والمعروفة بالميول السلفية المدخلية، المعادية أساسا لداعش والموالية حتى الآن لحكومة طرابلس.
أيضا، وبالإضافة إلى مشكلة الإرهاب، هذا الدعم المستمر لحفتر يفضح تصورا فرنسيا تقليديا، ويشكل حجر الزاوية لعشرات السنين في استراتيجية باريس في المنطقة العربية، وخاصة أفريقيا، أي التعويل على "حكم الرجال الأقوياء". وكما قال الرئيس الفرنسي شيراك في زيارة لتونس في زمن ابن علي، فإن "حق الأكل" أهم من باقي "حقوق الإنسان". كما يجب أن نتذكر أن وزيرة الدفاع الفرنسية وعدت ابن علي علنا بدعمه بإرسال معدات لقمع المظاهرات يوما قبل هروبه.
فنموذج حفتر ما هو إلا الحكم العسكري الطاغي بالحديد والنار، بالرغم من القوانين الدولية، وعبر التحالف مع مجموعات سلفية مدخلية متشددة! وهو خليط من شخص مارق وطاغية عسكري لا يتوانى عن التحالف مع أي كان من أجل ذلك. ويلتقي هذا التصور مع تشبث السلطات الفرنسية، حتى آخر لحظة، ببقاء بوتفليقة في السلطة رغم ضغط الشارع. وهنا يتموقع التصور الفرنسي بوضوح في تقاطع مع استراتيجيا إماراتية- سعودية- مصرية؛ لا ترتاح عموما لأي تحولات ديمقراطية في المنطقة. وعليه يجب أن نسأل عن الدعم الفرنسي الممكن لأي ميول استبدادية في تونس، في سياقات عدم استقرار واضطراب داخليين في الأفق المنظور.
عموما، نحن إزاء تهديد فرنسي جدي للأمن التونسي والمغاربي، من خلال تعميق الصراعات في المنطقة الغربية المتاخمة لحدودنا، وتهيئة الأجواء لعودة الدواعش، بتوسيع دائرة الفوضى هناك، أيضا بدعم أي ميولات استبدادية في المنطقة، وتقوية الميول المتشددة من خلال دعم التيار المدخلي المتحالف مع حفتر وقوى إقليمية معادية لأي تحولات ديمقراطية. كل ذلك يعيد التأكيد على زيف شعارات فرنسا الرسمية حول دعم "الحداثة" و"القيم الجمهورية"، وهو ما يتطلب تنديدا واحتجاجا صارمين من كافة القوى التونسية، على أساس الدفاع عن المصالح التونسية العليا، بمعزل عن أي اصطفافات إقليمية في الملف الليبي.