هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تتعلق قلوب العرب بالسودان والجزائر منذ أسابيع، فقد حرك شعبا البلدين حالة الركود التي تعيشها المنطقة منذ "هزيمة" الموجة الأولى من الثورات الشعبية، وخصوصا بعد الانقلاب العسكري في مصر. شكل الحراك الجزائري والسوداني موجة جديدة من الثورات الشعبية مهما حاول البعض التقليل من أهمية ما يجري في البلدين، وشكلت التغييرات التي اضطرت الأنظمة الحاكمة في البلدين لاتخاذها انتصارات مهمة ليس فقط للشعبين السوداني والجزائري، بل لكل الشعوب العربية الطامحة بالتغيير.
وعلى الرغم من المخاوف المشروعة التي يطرحها أنصار الثورات من المسار السياسي الذي أعقب سقوط رأسي النظام في السودان والجزائر، إلا أن هاتين الثورتين شكلتا إلهاما جديدا للشباب العربي، وأعادا الأمل بإمكانية التغيير في المنطقة، وأكدا من جديد قدرة الشعوب على الفعل والتأثير رغم فائض القوة والقمع الذي تحتفظ بها الأنظمة الحاكمة.
وتكتسب هذه الروح وهذا الأمل الجديد أهمية كبرى في مصر أكثر من غيرها، لسببين: أولهما عامل الجغرافيا الذي يجعل مصر عرضة للتأثر بما يحدث في دول إفريقيا العربية التي تشهد أحداثا تظهر تقدم الثورات (السودان، الجزائر، ليبيا)، وكما حركت تونس ذات الحجم السكاني الصغير الموجة الثورية الأولى التي اجتاحت أكثر من نصف العالم العربي، فإن الحراك الذي تشهده السودان والجزائر وليبيا كفيل بتحريك المنطقة بأكملها، خصوصا إذا كانت مصر هي المحطة الأولى للتأثر بإلهام هذا الحراك. أما السبب الثاني فهو لكون مصر تشهد حاليا غضبا شعبيا كامنا مع تصاعد القمع والفشل السياسي والاقتصادي، وتشهد كذلك حراكا كبيرا لرفض التعديلات الدستورية التي يريد نظام الانقلاب تمريرها لضمان التمديد لحكم السيسي لعشر سنوات على الأقل.
دخلت مصر في نفق مظلم من الاستبداد والقمع والانهيار الاقتصادي والسياسي منذ انقلاب يوليو 2013، واستطاع النظام أن يفرض حالة من الصمت والخوف من خلال استخدام الأمن والقضاء لإرهاب المعارضين، كما استطاع أن يتحكم تماما بالإعلام المصري لإظهار صوت واحد فقط، هو صوت التطبيل المتماهي تماما مع صوت السلطة، بل إنه منع وقمع حتى من صفقوا للانقلاب ووقفوا معه، وقد أدت هذه الأجواء والظروف إلى وصول قطاع عريض من المعارضة المصرية إلى حالة اليأس، وفي نفس الوقت إلى شعور النظام بالقوة وغرور السلطة.
ولكن هذه الحالة بدأت تتبدد مع تصاعد الرفض للتعديلات الدستورية، والتي يمكن أن تشكل نواة لتجميع قوى المعارضة في تشكيلات تتوافق على الحد الأدنى من المبادئ المتفق عليها بين جميع أطياف المعارضة، وقد أخبرنا الوزير السابق في عهد الرئيس مرسي يحيى حامد في لقاء شامل أجريناه معه أن هناك لقاءات بين شباب وقيادات المعارضة المختلفة بهدف تشكيل رأي واحد لمواجهة التعديلات الدستورية، وللتحرك معا في قضايا أخرى تحظى باتفاق الجميع.
ويمكن القول إن حملة باطل للتصويت الإلكتروني على رفض التعديلات الدستوري هي أولى مظاهر التوافق الناتج عن هذه اللقاءات، حيث يشارك في الحملة معارضون من تيارات مختلفة، إسلاميون وليبراليون، ومستقلون، ويحشد لها شخصيات عامة مثل الفنان عمرو واكد والفنان خالد أبو النجا والدكتور عصام حجي ووزير الاستثمار السابق يحيى حامد والمرشح الرئاسي السابق أيمن نور والدكتور عمرو دراج والدكتور سيف عبد الفتاح والإعلامي أسامة جاويش وغيرهم.. وتمثل الحملة خطابا سياسيا "ذكيا"، إذ أنها عمل رمزي يمكن أن يشارك فيه كل الرافضين للتعديلات الدستورية سواء كانوا يتبنون موقف المشاركة والتصويت بـ"لا" أو يدعون للمقاطعة.
لقد استطاعت الحملة أن تحشد 250 ألف مصري للتصويت خلال أيام قليلة، بالرغم من الحرب التي تشنها السلطة عليها، وبرغم حملة التخويف من المشاركة فيها، وبرغم قيام نظام الانقلاب بحجب الروابط التي يمكن التصويت من خلالها في مصر، وهو ما دفع القائمين على الحملة لتغيير الرابط يوميا ليتمكن الراغبون بالتصويت من استخدامها قبل أن يتم حذفها من جديد.
ومن المؤكد أن حملة سلطات الانقلاب الإعلامية الموجهة للإساءة لحملة باطل هي دليل على تخوفها من تحول هذا العمل الإلكتروني لنواة لعمل شعبي معارض، لأن نجاح الحملة قد يساهم في كسر حاجز الخوف، وقد يلهم الذين أصابهم اليأس ويعطيهم الأمل بإمكانية التحرك والتأثير.
قد تستطيع سلطات الانقلاب تمرير التعديلات الدستورية رغم الاعتراضات الشعبية الكبيرة، وقد لا تتمكن حملة "باطل" من وقف هذه التعديلات، ولكن هذه الحملة يمكن أن تشكل البذرة الأولى لتوافقات تاريخية بين المعارضة المصرية، والتي قد ينتج عنها تيار سياسي قوي يحرك الشارع وينتفض ضد نظام الانقلاب القمعي.
إنه قطار الموجة الثانية من الثورات الشعبية العربية الذي انطلق من الجزائر والسودان، ولكنه حتما لن يبقى فيهما، وقد تكون حملة باطل هي الخطوة الأولى في انتقال هذا القطار إلى مصر!