من الأمور المهمة التي أشرنا إليها، أن أجهزة مختلفة هي التي تضمن فاعلية أي كيان، ومن أهم تلك الأجهزة التي تقوم بعمليات التواصل والاتصال التي يمكن أن تحقق كل ما يتعلق بتماسك التنظيم وتوصيل المعلومات، والقدرة على اتخاذ قرار يتملك قدرا من الحجية والرضى.. كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا باتخاذ قنوات للتداول والتشاور؛ تؤسس لكل المعاني التي تتعلق بإمكانات الاستيعاب من خلال الحوار وممارسته في كل شأن.
ويبدو لنا أن الإشكالية الحقيقية ربما تنبع بشكل أساسي من جراء أفكار سادت هنا أو هناك داخل المشروع الاسلامي؛ وطّنت لأمور يمكن أن تتغافل عن فكرة
الشورى أو لا تضعها في مقامها المناسب، حتى يمكن أن تحقق هذه المشورة كل أهدافها ومقاصدها في استيعاب تعدد الارادات، والقدرة على إدارة التوازنات والأسس والمعايير التي على قاعدة منها تصدر وتصنع القرارات. وفي واقع الأمر، فإن من أمراض ذلك التفكير أنه جعل من أفكار تتعلق بالبيعة والطاعة كقضايا مناقضة لعمليات الشورى والحوار، وتحقيق ما يمكن تسميته بيئة تتمتع بالفاعلية الاتصالية.
أفكار سادت هنا أو هناك داخل المشروع الاسلامي؛ وطّنت لأمور يمكن أن تتغافل عن فكرة الشورى أو لا تضعها في مقامها المناسب
انتشر في جنبات هذا الفكر أن الشورى معلمة لا ملزمة، وبدا البعض يدافع وينافح عن هذا الرأي بكل قوة، وربما لأغراض تتعلق بإعطاء حرية للقيادات في اتخاذ القرار؛ من دون ممارسة عملية شورية حقيقية تؤسس لعملية صناعة القرار داخل الكيان. ولا شك في أن هذه الفكرة التي سادت هنا وهناك قد وجدت صدى لدى البعض لتبرير حالة من إغفال عملية الشورى، وإهمال كل ما يتعلق بممارسات فاعليات الحوار والتداول، وبات هذا الأمر مع تراكمه مؤديا إلى ضمور هذا الجهاز الشوري، حتى وإن وُجد، وُضعت ممارساته في حالة شكلية لا أثر لها ولا تأثير للقيام بها، حتى صارت هذه المسألة من الفضائل المنسية، ومن الفرائض الغائبة في الممارسة السياسية والاتصالية. وتناسى هؤلاء أن الحقيقة الشورية هي من عزائم الأحكام، ليس فقط لا يمكن تخطيها، ولكنها ممارسة تأسيسية تحافظ على الكيان وتحقق التوازن وترشد وتسدد القرار.
وفي هذا المقام، تبدو لنا العملية الشورية باعتبارها حالة مجتمعية وثقافية هي أصل من الأصول القيمية الإسلامية التي يجب أن تشكل روحا سارية في كل الكيانات الإسلامية، بما تؤكده من ممارسات شورية راشدة، ومن حركة تسيير وتدبير عادلة، ومن علاقات داخلية تحافظ على شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية راسخة، وتحفظ لكل التنوعات وجودها وتعبيرها عن ذاتها في حركة شورية، أو مجتمع تسيره عمليات ديمقراطية صاعدة، وحركة دائبة من الحوار والمراجعة في إطار يبلغ غاياته في تحصيل صوابيه الرأي من اجتماع الآراء وتكاملها، ضمن اعتماد آلية الحوار والقدرة على تفعيل كل مسالكه، وتأسيس قنوات اتصالية قادرة على تقديم وظائفها في تحقيق التواصل والصلة والاتصال، وتحافظ على الكيان من أي تصدع أو من عمليات استبعاد أو من أي حالة انشقاقات سابقة أو لاحقة.
كان علينا أن نسقط كل ذلك على تلك الأجهزة الشورية وفاعليتها في تنظيم
الإخوان. ومن الأمور المهمة في دراسة هذا الأمر؛ أن نؤكد أن الأمر ليس بوجود الأشكال والرسوم والأجهزة التي تتسمى بأسماء معينة من دون تحقيق الدور في الوظائف وجوهر المقاصد المرتبطة بها. فحينما نؤكد على الحالة الشورية، فإننا نتعامل مع ذلك باعتبارها قيمة أساسية ضمن منظومة القيم الكلية التي تملك الحجية والإلزامية وتضمن الفاعلية، بحيث لا يمكن بأي حال تهميشها تحت أي دعوى، خاصة في مجتمعات ربما اعتادت على الرأي الأوحد والقائد الفرد، وهي في ذلك تكفل كافة المعاني التي تتعلق بالشبكية المؤسسية وقدراتها؛ لأن ذلك من الأمور التي تحفظ الكيان، وتحفظ الوظائف الأساسية التي يجب أن يقوم عليها، وتضمن فاعلية هذه الأجهزة في الممارسة الواقعية، بحيث لا تقف عند مجرد وجودها كحالة شكلية أو أجهزة ديكورية، ليؤدي ذلك في منتهى الأمر ويمهد الطريق لحالة استبدادية، فتقصي الفاعليات باسم أمنها أو المحافظة على تنظيمها، وتضع الشورى في خانة كونها حالة معلمة لا ملزمة، وتؤكد على عناصر أخرى متضخمة متوغلة، فتؤدي إلى حالة من اختلال تلك القنوات الاتصالية، وكذلك ما يتعلق بشبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية، فينتج في النهاية القرار المعزول الذي يشكل حالة وصائية، لا حالة حوارية أو تداولية.
حينما نؤكد على الحالة الشورية، فإننا نتعامل مع ذلك باعتبارها قيمة أساسية ضمن منظومة القيم الكلية التي تملك الحجية والإلزامية وتضمن الفاعلية، بحيث لا يمكن بأي حال تهميشها
إن النظر إلى مجلس الشورى ضمن حركة الإخوان ومحدودية دوره؛ لا نسأل فيه عن مجرد الوجود، ولكن لا بد وأن نتساءل عن حقيقة الوجود الفعال المؤثر الذي يضمن تحقيق المقاصد في أجلى معانيها وأكمل مغازيها، فترشد العمل، وتسدد القرار ضمن تلك الحالة الشورية. وليس لأحد أن يدعي بأي حال من الأحوال خطأ الشورى بما قد يترتب عليها من نتائج، فإن النظر الى تلك الأمور تؤكدها الآيات "فاعف عنهم واستغفر لهم"، وكان ذلك مشفوعا بمواصلة الأمر "وشاورهم في الأمر" للتأكيد على إلزامية العملية الشورية، قياما وابتداء ومقصدا وانتهاء. إن هذه المسألة التي تتعلق بإقصاء الشورى، أو الابقاء عليها شكلا من دون ممارستها فعلا وجوهرا، إنما يشكل أخطر ما يمكن أن يصاب به التنظيم حينما يملك أجهزة تحمل اسم الشورى، وهي أقرب إلى حالة العطالة والبطالة، أو إلى حالة الغطاء والزينة. إن هذه الأمور لا يمكن أن تبتغى إلا لمقاصدها في القيام بعملية الشورى واصطفاء الآراء ورشادة القرار.. عمليات بعضها من بعض، لا تقبل الإغفال ولا الإهمال ولا الافتعال، إنما هي في حقيقتها فعل وتفعيل، ووظائف وأدوار، تأثيرا وفاعلية.
فذلك يعيدنا إلى مدى ارتباط مجلس الشورى بالقرارات التي يصدرها، وقدرته على متابعتها، على ما يؤكد أحد أهم الباحثين الذين درسوا دور مجلس الشورى وانتقد محدودية هذا الدور؛ من خلال ليس فقط التطورات والتعديلات اللائحية، ولكن متابعة عمليات الممارسة إبان ثورة يناير وبعدها، بل وضرورة تتبع أزمة القيادة، وحال الانتخابات، وعملية الانشقاقات وأثرها على التنظيم وتماسكه، خاصة بعد الانقلاب، ووجود بعض ممثلي الحركة في الخارج، والتي تعود في بعض آثارها السلبية الى الحالة الاتصالية والحوارية والشورية، والتقليل ليس فقط من إغفال الممارسة الشورية ومحدوديتها، بل والتهوين من الآلية الانتخابية والاحتكام اليها داخل التنظيم تحت دعاوى شتى، على الرغم من الحديث المتمسك بالاستحقاقات الانتخابية.
الأمر لم يقف عند حد إقرار الشورى، ذلك أن فكرة الشورى في حقيقتها إنما ترتبط أيضا بقضية التمثيل
فعلى الرغم من ظهور أزمات عديدة، لم يتدخل مجلس الشورى لمناقشة المسار السياسي. فلدى متابعة القرارات التي أصدرها المجلس منذ 2011، يتضح أن (باستثناء قراري رفض دخول الرئاسة ثم الموافقة عليها) غالبية القرارات ارتبطت بتفويض مكتب الإرشاد أو استكمال عضويته، فيما لم تتضح اتجاهات المساءلة أو المناقشة وأبعادهما.. هذا بعض ما يذكره "الدكتور خيري عمر" في بعض مقالاته المهمة الناقدة والكاشفة لاختلالات تنظيمية تفتقد أصول المؤسسية المتوازنة.
فضلا عن ذلك، فإن الأمر لم يقف عند حد إقرار الشورى، ذلك أن فكرة الشورى في حقيقتها إنما ترتبط أيضا بقضية التمثيل.. تمثيل التنوعات المختلفة وقدرة المؤسسة على استيعاب الآراء المتنوعة والإرادات المتعددة من دون استبعاد أو اقصاء، لا كما يرى هؤلاء الذين يتعبدون في محراب التنظيم وأولويته، ويتناسون استيعاب التنوعات والقدرات والإمكانات والكفاءات في إطار يضمن تمثيل أهل الخبرة والكفاءة والجدارة لا أهل الثقة والولاء، ولا الاستناد على افتراض أن الحكمة الخالصة تتزايد كلما زاد الشعر الأبيض أو تقدم العمر أو ابتلي بالسجن.. ذلك أن للممارسات التي تتعلق بالفاعلية معايير أخرى متعارف عليها، غير تلك الأمور التي اعتمدت إما في أعراف الجماعة أو في لوائحها، فسدت الطريق على إمكانات التجدد واستيعاب التعدد، والمعطيات التي تتعلق بإمكانات تتعلق بإدراك حجم التعقد.. التهوين من شأن الشورى دالة أخرى في فجوة التنظيم.