ذكرنا في المقال السابق عن فجوة التنظيم؛ أن الفكرة المؤسسية ومراعاة القيم التي تتعلق بها غير فكرة التنظيم وهرميته، وأن مفهوم المؤسسية أعلى درجة وأشمل معنى من مسؤول التنظيم في هذا الإطار، وله من الشروط المهمة التي تضمن فاعلية المؤسسة، فضلا عن بنيتها التنظيمية.. أردنا من خلال ذلك أن نتحدث عن قيم المؤسسية التي تحفظ للكيان أهم قدراته وأهم وظائفه، ضمن أصول ما يمكن تسميته بالمؤسسية المتوازنة. وغاية الأمر في هذا المقام إنما يتعلق في الحقيقة بما يمكن تسميته بقسوة التنظيم، فإن التنظيم يولد ومعه مرض مزمن وهاجس متعاظم بالحفاظ عليه، حتى لو داس على كل مناطات فاعليته، وعلى أسس قدراته المؤسسية، وعلى عطاءاته التي يجب أن يقوم بها وعليها، تأسيسا وارتقاء وتطويرا.
وكما أكدنا، فإن عمليات التجديد المستمرة هي جزء لا يتجزأ من فهم الفاعلية المؤسسية، والقدرة على تدارك معطيات الواقع والتفاعل معها، بما يواكب عناصر تعقيده من ناحية، والمرونة المؤسسية من ناحية أخرى، في توازن يجعل المؤسسة بقيمها وفاعليتها أهم من شكلانية التنظيم وهرميته والحفاظ عليه، وتحوله من مقام الوسيلة لفاعلية قصوى إلى مقصد الحفاظ والحماية، فتتحول الوسيلة إلى غاية، وربما يكون هناك حرص مبالغ فيه في الحفاظ على التنظيم، حتى لو ترهل أو تجمد أو تكلس، فشُلّت فاعليته وانقضت صلاحيته. أما المؤسسية، فهي شأن آخر يتعلق بجوانب القيمة والتوازن وفقه الواقع، وأصول التجدد وحركة الفاعلية.
وربما من أخطر أمراض التنظيم أن يقسو على أبنائه، وتكون تلك القسوة التنظيمية حالة مرضية بدعاوى مختلفة، وأغطية تبريرية لا طائل من ورائها إلا الحفاظ على تنظيم الأمر الواقع وواقع التنظيم؛ مهما كان ضعفه أو عدم قدرته على الاستجابة، فيتململ
الشباب بحكم عمره ومنطق تفكيره، وبحكم استيعابه لمنطق وتفاعلات الواقع وتعقده، والتعرف على جوهر متطلباته وموجباته، فضلا عن ذلك، فإن الشباب كتكوين جيلي في أي تركيب مؤسسي؛ إنما يشعر بأزمات التنظيم بقرون استشعار حساسة، وبآليات إنذار مبكر مهمة، فيتحسس الأزمة قبل الوقوع، ويشير إلى المرض قبل الاستفحال، ويحدد الوجهة إذا ما أريد الاستدراك، فالمآل والاستقبال، فإن أرادت المؤسسة أن تتشوف معنى المستقبل لها، فوجب عليها أن تتفحص صفحات وجه شبابها، فتتعرف على مطالبهم وعلى أشواقهم، وعلى قدراتهم وعلى مكانتهم ومقامهم في أي رؤية أو بنية مستقبلية لحال التنظيم ومسار الحركة.
ومن المهم أن نشير إلى أن هذا الحدث المزلزل والزلازل المتتابعة التي تمثلت في ثورة 25 يناير، وكذلك انقلاب الثالث من تموز/ يوليو ومذابح العسكر التي ارتكبها مستخفا وبلا هوادة، ضمن عمليات ترويع وتخويف، كان الشباب هو الأكثر حساسية في الاستشعار بتلك الزلازل جميعا. فزلزال ثورة 25 يناير فجّر عالم أشواقه وأحلامه، وزلزال الانقلاب والمضادين للثورة الذين هجموا عليها بكل قوة في انقلاب غاشم؛ رسّخ شعوره بالإحباط، فكان الشباب الأكثر حساسية وإحساسا. وكان كذلك الأمر الذي يتعلق باختبار الإنسانية الذي تشكل في مذابح عدة وصلت في ذروتها في رابعة والنهضة، وشعر الشباب بأن العسكر لا يتورعون في النيل منهم أو من ثورتهم عن ارتكاب القتل والاستخفاف بالأرواح واراقة الدماء.
تفجرت مع تلك الزلازل أحاسيس متناقضة، بدت وكأنها تحاصر هؤلاء الشباب، بحيث تستعصي قدرتهم على الاستيعاب. بات هذا الأمر يعبّر في عقل شبابه، وعلى وجه الخصوص شباب تنظيم
الإخوان، عن حالة إضافية من شعورهم بوطأة التنظيم الذي قد لا يقيم الوزن الكافي لمشاعرهم أو لمواقفهم، أو بعض تلك الانتقادات أو بعض مصادر حيرتهم. وهنا، لم يكن للتنظيم، وقد تضخمت عناصر الطلب على حمايته بأي شكل وبأي حال، إلا إحساس بوطأة قسوته في تعامله مع الشباب في الأحوال الثلاثة: حال الثورة، وحال الانقلاب، وحال اختبار الإنسانية الذي أورث حيرة ممتدة وبعض الإحباط الذي تسرب إلى النفوس.
لو أننا استلهمنا معاني المؤسسية في هذا المقام، وليس هاجس حماية التنظيم، لاهتمت الحركة بترمومتر شبابها، وأيقنت أن هذا الشباب، بما يحمله من أشواق وإحباطات، هو الذي يؤشر على الفقه الحقيقي لمعنى تلك المآلات التي تتعلق بالتنظيم، فبدت قسوة النظام العسكري تترافق مع قسوة التنظيم على شباب لا حيلة له، وليس له من ذنب إلا أنه حلم بالتغير وحمل أشواق أمل وثورة وأمة.. أدت هذه التركيبة والممارسات إلى ضعف الإنجازات وهشاشة الأداء السياسي. ويمكن القول إن موانع الرقابة والمحاسبة لم تكن في نقص الصلاحيات فقط، وإنما في إشكالية الإرادة للتحول نحو المؤسسية. وبهذا المعنى، تواجه جماعة الإخوان المسلمين تحدي إجراء تغييرات جذرية ترسخ المؤسسية المتوازنة، وهو تحدٍّ ما زال يحمل في طياته تعقيداتٍ كثيرة، تساهم في الحيرة تجاه الخيارات السياسية.
وفي الغربة، كانت الطامة الكبرى، حيث صار الأمر بين ثلاثة غربات: غربة شباب اعتقل في سجون نظام فاشي عقوبة على أحلامه في الثورة والتغيير، وغربة شباب في الداخل صار مطاردا لا يجد حيلة في مدافعة نظام عسكري فاجر؛ صادر الأمل والمستقبل وزرع الخوف والترويع، وغربة ثالثة لمن استطاع أن يخرج من وطنه ويفر بحريته؛ إلا أنه وقع فريسة تنظيم لا يرحم ونخبة لا تنفع، فحاصر آماله بشكل أو بآخر، وضغط عليه في معاشه، وبات الشاب في غربته يئن من أوجاعه، لا يقل الأمر عن معتقل في سجون عسكر، أو مطارد في وطنه وعلى أرضه، أو منفي في غربته يتسرب حلمه من بين يديه.. رفقا أيها التنظيم، رفقا بأبنائك، فإن الشباب هو فتوة أي كيان، والقدرة على تبصر الأمل مشفوعا بالعمل ومقترنا بطاقة بناء المستقبل. إن التنظيم الذي لا يعرف بقسوته إلا طاعة خانعة، ولا يقدم في سياسته إلا قسوة حاكمة.. لا يجيد فن الاستيعاب، ولكنه يلوح دائما بالاستبعاد من جنة التنظيم.
كانت الثورة مسألة فارقة لدى الشباب جميعا، ومنهم شباب الإخوان في معظمهم، وظلت بعض القيادات تنظر إلى أن فئة الشباب مرشحة للانفلات مع حالة الثورة، وواجه التنظيم ذلك بكل قسوة، فاستدعى هذا للتحقيق، وفصل هذا، وقام بكل أمر يتعلق بالحساب مقدمة لما اعتبر عقابا على أي مخالفة أو أي نقد حتى لو كان معقولا أو مطلوبا، فقط هو لا يخشى إلا الانفلات، ولا يخشى إلا على التنظيم. ولكن التنظيم (أو إن شئت الدقة) المؤسسة؛ ليست إلا بإنسانها وليست إلا بشبابها، فإن محاولات الاستيعاب للأسف الشديد قد خرجت من رحم التحكم التنظيمي؛ لا من رحم المؤسسية المتوازنة واستيعاب متغيرات الواقع.. البعض لا يزال لا يتفهم أن الثورة كانت كاشفة فارقة، خاصة بالنسبة للشباب الذي جعل من تلك الثورة كل أشواقه في التغيير، وكل آماله في النهوض والتأثير.