هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في ظرف أسبوعين تحدث حفتر مرتين أمام مجاميع من الأعيان والنشطاء، وهو الذي يغيب عن الظهور أشهرا، فلماذا هذه الخطابات وما الدافع وراء محتواها المختلف تماما عما كان يشغل المشير سابقا ويشكل محور حديثه؟
أشرنا في مقال سبق إلى أن الغاية الأساسية من كلامه في لقائه الماضي منذ أسبوعين هي الحديث عن موقفه من الانتخابات والتركيز في الخطاب على ما يخدم مصالحه، وكان خطابه الأول من أمس في المسار ذاته مع إضافة جزئية مهمة وهو الإعلان بشكل مباشر عن عدم دعمه للقوة المهاجمة لطرابلس، وذلك في مناسبة رأب الصدع مع قبيلة العواقير والتي كان انقسامها حول زعامته مؤرقا بلا شك.
تأخر حفتر ما يزيد عن أربعة أسابيع للإفصاح عن موقفه من القوة التي هاجمت العاصمة بشكل صريح، وجاء في خطابه السابق ما يشير بشكل غير مباشر إلى تأييده لها بقوله إن مدينة ترهونة معنا وأعيانها يدعمون الجيش، والمعروف أن مجلس أعيان ترهونة يقف بقوة وراء اللواء السابع الذي يتقدم القوات المهاجمة.
والتفسير عندي في إعلان حفتر بشكل صريح في لقائه الأخير عن عدم ارتباط اللواء بجيشه ربما يعود للوضع الحرج الذي يواجهه اللواء على المستوى الدولي والذي قد يقود إلى إدانته وتضييق الخناق عليه، ويمكن أن يكون موقفه الجديد بطلب من أطراف دولية ترى من الضروري أن لا ينسب لحفتر مثل هذا العمل في هذا الوقت بالذات.
يظهر بشكل جلي اتجاه حفتر إلى الحديث عن الأوضاع المعيشية وقضايا التنمية، ولا شك أن هناك قناعة اليوم عند حفتر بأن لا مجال للعمل العسكري لتحقيق السيطرة على كامل تراب البلاد، فقد أنهكت قواته معارك بنغازي ودرنة ولا سبيل لها للزحف غربا لأنها ستواجه قوات كبيرة ومتمرسة ومسلحة.
أيضا هناك الضغوط الدولية، التي أتت من الدول الداعمة له قبل المتحفظة على مشروعه، بأن يقبل بالتسوية السلمية والتوافق الذي يقود إلى انتخابات عامة، لذا عليه أن يتففن في مجاراة الوضع المستجد بخطاب جديد ونبرة مختلفة.
خطابات حفتر الأخيرة تتماهى في جوهرها مع التوافق والإنتخابات والمصالحة، فقد أصبح حديثه عن القتال من باب ذكر الامجاد والإشادة بإنجازاته، وتراجع الحديث عن الزحف باتجاه الغرب بمجرد الانتهاء من معارك الشرق.
خطاب متغيّر
إنه اليوم يركز على مواضيع تقدمه كمنقذ في السلم من خلال الحديث عن المصالحة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية بعد أن كان منقذا عسكريا يتحدث عن الخطط الحربية ويرعب خصومه بالتهديد والوعيد.
العدو في كلام حفتر القديم هم الدواعش والإرهابيون، أما اليوم فلا حديث عن الإرهاب ولا الإرهابيين، بل العدو هو الفقر والخصم هم دواعش المال العام، هكذا بصريح العبارة، وهو خطاب يلائم المرحلة فالناس سئمت الحروب، والوضع الاقتصادي المتردي يطحنها ونقمتها على الفاسدين كبيرة.
المليشيات ليست شرا كلها، وهناك ظروف في نظر حفتر دفعتها لفعل ما فعلته، وهو مستعد للتعامل معها "وفتح الباب لها"، وتقدم في آخر خطابين بمخرج لهم بتسفيرهم للخارج ومنحهم أموالا من خزانة للدولة حتى تتغير الأوضاع في البلاد فيعودوا، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يمكن أن يصل إلى العاصمة ويستقر بها وهو في عداوة وصدام معهم، وطريقته لتفكيك جموعهم الإغواء وليس المواجهة، ولا يستبعد أن يشمل هذا الخطاب المتورطين في أعمال مشابهة من أنصار الكرامة في بنغازي.
ولك أن تتصور أن من يدعو إلى هذه المقاربة الضاربة للقانون بعرض الحائط هو من قاد حربا شرسة ومدمرة على مجموعات مسلحة لا تختلف كثيرا عن التي طالب معاملتها باللين، فحفتر نفسه يقول أنهم متورطون في أعمال نهب وسطو مسلح وقتل.
دعا حفتر إلى اللين مع من وصفهم بالمليشات الواقعة في إجرام حسب وصفه، وهو الخيار الذي رفض أن يجعله سلبيا للتعامل مع الكثير من حملة السلاح في بنغازي الذين لم يكونوا من المتشددين وواجهوه باعتباره خارجا عن القانون بقرار النائب العام ومتمردا وفق وصف وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة الشرعية العام 2014م.
هذا التغير الجذري في قناعات حفتر له دلالته من جهة أنه غير قادر على الاستمرار في القتال لتحقيق غايته للأسباب السابق الإشارة لها، وأن البراغماتية قد تكون هي الوسيلة الملائمة لإكمال المسيرة وإزالة العوائق لتحقيق الحلم والوصول إلى كرسي الحكم.
مغازلة الجزائر
وأخيرا، هناك مسائل على الهامش لكن لها دلالتها منها ذكره الجزائر من بين الدول التي قدمت دعما لعملية الكرامة ووضعها في مصاف مصر والإمارات والأردن، فالجزائر لم تقدم دعما لحفتر ومعروف تحفظها على مشروعه لكن أظن أنه أراد من ذلك التخفيف من حدة الأزمة بسبب تصريحاته غير المدروسة.
وعلى ذكر الكلام غير المنضبط، فقد دعا حفتر في خطابه الأخير أفراد "المليشيات" المتورطين في جرائم، كما وصفهم، إلى السفر لدول سماها بالاسم من بينها دول عربية، وهذا التصريح كفيل بإيقاعه في أزمة جديدة شبيهة بأزمة الجزائر.
وفي ما يتعلق بخارطة نفوذه فقد تعمد أن يبالغ في مساحات سيطرته في الخطابين ليتحدث عن خضوع مدن الساحل الغربي من الزاوية وحتى الحدود التونسية ثم جنوبا إلى الجزائر بما في ذلك غريان ومن حولها، والغرض تبرير توقف العلميات العسكرية بعد وعوده الموثقة مرات ومرات بأن الجيش لن يوقف القتال إلا بعد دخول العاصمة.