هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(قبل أن تقرأ)
تداولت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي أخباراً وتعليقات عن مشروع قانون لتحصين وتكريم ومَنْح عطايا وامتيازات لقيادات من القوات المسلحة، في زمن لا تحارب فيه هذه القوات إلا الشعب الذي يجب أن تدافع عنه! ولما كانت التعليقات أوفى وأقوى من أي مقال، فقد حاولت أن أبتعد عن التفاصيل المنشورة للتشريع "غير المشروع"، ساعياً للتعرف على خلفيات وأهداف أكثر عمومية، تضع مثل هذه التصرفات الخسيسة في سياقها السياسي، خاصة وأن مشروع القانون (من حيث الشكل والمحتوى والهدف والاستفزاز) تكرر بصور متعددة مع القضاء والإعلام والشرطة ورجال الأعمال.. تمييز وشراء ذمم للموالاة في مقابل تقييد وتنكيل وحصار للمعارضين.
(1)
أعرف أن السيسي كان هناك تحت "الجسر القديم"، لكنني لم أعرف هل كان مكيافيلّي هناك، واقفاً في نفس المكان قبالة نهر أرنو يختلس النظر من تحت الجسر المتهالك إلى الجنود وهم يلقون برماد جثة أستاذه الثائر "جيرولامو سافونارولا"، بعد شنقه وحرقه؟!
(2)
لقد أثرت هذه الحادثة تأثيراً عميقاً في حياة مكيافيلّي، ودفعته للتخلص التام من أي أثقال أو التزامات تتصل بالمبادئ والأخلاق. فقد أصبحت القضية بالنسبة له: كيف تصل إلى هدفك بصرف النظر عن الوسائل والأدوات، فالوصول للهدف.. صار بالنسبة له هو الهدف وهو الطريق معاً. وهذا ما ينفذه السيسي بوضاعة وخسة تفوقت على مكيافيلّي نفسه. تقول الأمثولة إن كلا منهما شاهد بعينيه هزيمة المراهنين على الجماهير.. شهد نيكولو مكيافيلّي ذلك من خلال انصراف أنصار سافونارولا عنه وخذلانه في صراعه مع البابا، ما أدى إلى إعدامه بتهمة الهرطقة وإدعاء النبوة. وشهد السيسي ذلك من خلال سقوط الحزب الوطني وفشله في حماية مبارك، كما تعرف السيسي على دور الإعلام ومراكز التأثير الشعبي وحضور الدبابة في الشارع السياسي، وشاهد قدرة هذه الوسائل على التلاعب بتوجهات وتطلعات جمهور ثورة يناير، فلم يعبأ السيسي بالجمهور ولا بالثورة، بل فكر في الوسائل التي يتحكم عن طريقها في الجمهور ويستخدمه لصالحه، فهذا أضمن من أن يعمل هو لصالح "جمهور متقلب" لا يمكن الاعتماد عليه كدرع أمان.
(3)
في الوجه المقابل للثورة، اكتملت نظرية السيسي في الخسة، بعد متابعته لتفاصيل الإطاحة بمبارك، فقد تعلم أن سقوط "الوتد الكبير" لم يكن ليحدث إلا بتوفر شرطين: الأول هو تحرك الجماهير؛ لأنه يوفر الغطاء المناسب والذرائع المعلنة للشرط الثاني، وهو تحرك "آلة الإطاحة" التي تتشكل عادة من القوى المالية والدينية والأمنية في أي دولة. فالثورة في الميدان لم تكن كافية لإسقاط مبارك إلا إذا حاولت أطراف من داخل القصر أن تركبها وتستخدمها، وهذا ما أدركه السيسي مبكراً عندما وقف "تحت الجسر القديم" وهو يشاهد رئيس الأركان سامي عنان يشعل النيران تحت جثة مبارك المعلقة في ميدان التحرير. لقد عاد عنان من أمريكا بخطته التي فاتح فيها المشير طنطاوي فور لقائه في حديقة وزارة الدفاع: "لا بد من تنفيذ "انقلاب ناعم" وعزل مبارك بعد تفويضه للقوات المسلحة بإدارة البلاد. وقد أعلن عنان ذلك بنفسه في شهادة منشورة عن موقفه من ثورة يناير. وأعتقد أن السيسي قد توقف كثيراً أمام موقف عنان من الرئيس مبارك، وأمام الترتيبات التي قام بها مع الأمريكان، ووعده لهم بانحياز الجيش للمتظاهرين وليس للنظام، وبالتالي فإن وجود عنان في النظام وفي الحياة السياسية لن يكون مقبولاً أبداً للسيسي؛ ليس بسبب الإهانة النفسية التي شاعت عن إهانة رئيس الأركان لـ"الضابط النتن اللي حط الدبوس في الأستيكة"، لكنه الخوف الذي ترسب في أعماق السيسي من "رأس الذئب الطائر". هكذا كانت تصرفات عنان سبباً مباشراً في إحساس السيسي بعدم الأمان، حتى عندما وصل إلى الحكم، وبحث عن أيسر وأضمن السبل لتحصين نفسه وحكمه، فعاد إلى "الجسر القديم" ليتشاور مع مكيافيلّي في الغاية وفي الوسائل.
(4)
كان مكيافيلّي قد صعد إلى الهاوية، فتعلم التسلق والتلون والتآمر والخداع.. سعى للتقرب من أسرة ميديتشي، ولما وجد صداً انقلب عليها وانضم لمناوئيها، وأصبح دبلوماسيا ورجل دولة ومستشاراً بالأجرة؛ أنجب سلالة انحدرت هبوطاً حتى قدمت أجيالاً بمستوى مكرم وبكري وعبد العال و"الكائنات العباسية" التي تتحدث وتتحرك وتتنفس بتعليمات من الأجهزة الأمنية.. قال مكيافيلّي للسيسي: أنت تحتاج إلى قوة تحميك، وهذه القوة ليست الجماهير، وهي تحتاج في البدء إلى من يتملقها ويداهنها، لكنه إذا استمر على ذلك استضعفته ونالت من هيبته؛ لأن طلبات الناس لا تنتهي وأخلاقهم متغيرة لا تثبت على حال، كما أن بذل الجهد في إرضاء فئة سيغض أخرى، فابدأ بحديث "نور عينينا"، وعندما تتمكن انشر الفوبيا وتوسع في السجون، واتبع نظرية "خلصت خلاص ومش عاوز أسمع كلام تاني". فاللين والأخلاق لا تنفع مع الناس، حتى لو كنت نبياً أو قائداً عظيماً. وتذكر دائما يا سيسي ما حدث قبالة "الجسر القديم" لسافونا رولا، فقد فشلت ثورته وأعدموه لأنه اعتمد على نصرة الغوغاء، ولما جاء وقت الجد انفضوا من حوله، بينما أصبح جيرون ملكاً على سرقسطة، بعد أن كان مجرد فرد بسيط من أفراد الرعية؛ لأنه كان يعرف طريقه ولا يهتم بالأخلاق والقواعد وكلام الناس.. أغراهم بمعسول الكلام، ولما تولى الحكم فرّق شمل الجيش القديم، واجتذب منهم فئة موثوقة اشتراها بالمال، وبدأ يؤسس لعصابة حكم جديدة، يغيرها من حين إلى حين حتى لا يستقر نفوذ لأحد غيره.
(5)
حكى مكيافيلّي للسيسي أنه بعد حادث "الجسر القديم" عاش فترة إحباط واكتئاب عنيف، بدأ بعدها يطور أفكاره ويرتقي لمرحلة "الجيل الرابع"، ليحقق مصلحته بصرف النظر عن كلام الإصلاح الذي سمعه من سافونا رولا، والذي أدى إلى إعدامه قبل أن يكمل الخمسين من عمره.. كان عاطلا وتعيساً، فسعى لتملق أسرة ميديتشي حتى توظفه في أي عمل، ولما تجاهلته تحالف ضدها حتى فقدت السلطة، ووجد طريقه إلى بلاط الحكم الجديد في فلورنسا. وفي وظيفته الجديدة، تعلم أكثر مما تعلمه في السجن أثناء حكم أسرة ميديتشي، فقد أيقن أن الحاكم الذي يصدق شعارات المساواة والحرية سيتعب كثيرا، والأرجح أنه سيفشل ويتعرض لمأساة، لذلك عليه أن يتحدث عن المساوة ولا ينفذ منها شيئا، بل ينتقي الأشخاص المميزين الذين يجد فيهم دعما لحكمه، فيرفعهم ويمنحهم القلاع والأراضي والأموال مقابل دعمهم الواضح وغير المشروط له، فهذا أوفر من توزيع المال على الشعب، وأضمن في الحصول على دعم مؤثر، فالناس ترهق الحاكم في الأخذ لكثرة عددهم، وفي المقابل لا يضمن الحصول على دعمهم وقت الشدة؛ لأن كتيبة واحدة من مئة جندي تستطيع قمع آلاف الأفراد من الشعب، الذي لا يتوقف عن طلب المزيد من الحرية ومن السلع معاً.
(6)
كان السيسي قد استمع من بعض المتحذلقين إلى عبارات منقولة من توماس هوبز يقول فيها: "لا يستقيم أن يكون الملك ثرياً ومجيداً وآمناً، بينما شعبه منقسما ويتضور جوعاً؛ لأن مثل هذا الشعب البائس لن يستطيع أن يخوض الحروب مع الملك"، وقال لميكا: هذا المفكر ظهر بعدك فما رأيك فيما يقول؟
رد مكيافيلّي على السيسي بصراحته الفجة: لقد ولى زمن ملوك الحروب، ما حاجتك للحرب يا سيسي؟.. أنت سمسار السلام الدافئ. إن مكاسب صفقة واحدة كصفقة القرن تغنيك عن غنائم أي حرب، أما المجد فتلك سلعة قديمة نعلقها في القصور للمفاخرة، بينما لا نجد لها أي استخدام واقعي وقت المواجهة مع الشعب.. لا تفكر في الحصول على حب الناس.. إخافتهم أسهل وأفيد لك، إن معركتك الوحيدة يا سيسي ليست مع الأعداء في الخارج، ولا ضد الفقر ولا من أجل تحقيق العدل والمساواة.. معركتك الكبيرة مع شعبك، فلا تترك لهم الفرصة لإضعافك والنيل منك.. أهمل الضعفاء والمرضى والعلماء وعموم الناس، اجتذب القويّ الذي يدعمك ودمر القَوي الذي يعارضك.. إذا كان في يدك ألف قطعة ذهب لا توزعها على ألف فقير، خذ نصفهم لنفسك، وامنح أربعة من كبار الأمراء مئة قطعة لكل أمير، وتكفي المئة المتبقية للألف فقير.. وإذا طمع فيها موظفوك الصغار وأخذوا معظمها، فلا تحاسب منهم إلا الغبي الذي يتسبب (وهو يسرق) في أزمة علنية تعكر يومك.
(بعد أن قرأت)
السيسي لا يسعى لتحصين القادة العسكريين الذين ساعدوه للوصول إلى الحكم، كما لم يفعل ذلك مع القضاة والإعلاميين وشلة المخابرات وتايكونات المال الفاسد، لكنه حسب نظريات الحكم الاستبدادي، من مكيافيلّي إلى بروس دو مسكيتا، يسعى لتحصين شخص واحد.. هو السيسي نفسه، وما كل هذه التشريعات والامتيازات إلا رشاوى وبدلات صمت ومحفزات دعم، من السهل الانقلاب عليها وعلى أصحابها إذا فقدوا قدرتهم على دعم النظام، حيث يتم سحبها منهم بعد التنكيل بهم، والإغداق على آخرين أكثر دعما ومساندة للنظام. لكن التاريخ يؤكد لنا أن أساليب مكيافيلّي لم تنفعه طوال الوقت؛ لأنه تصور أن السباحة في حماية التماسيح قد تحميه من أسماك القرش. وبتعبير "ماريو بوزو"، فإن العصابات مهما بلغت قوتها لن تستطيع الصمود إذا خرج سيف العدالة من غمده.
الثورات كاسحة، وأول ما تكسحه بعد الحكام، نصوص الدساتير المختلة ومنظومة القوانين المعكوسة... بكره الثورة تقوم ما تخلِّي
[email protected]