هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جمال الجمل
رقصة 30 يونيو
(1)
ستمطر هجاءً هذا الأسبوع؛ لأن عاصفة 30 حزيران/ يونيو على الأبواب.
لمزيد من الصراحة، أعترف بأنني فكرت في تجنب الخروج إلى الشارع السياسي خشية الأوحال ومخاطر الانزلاق، ثم فكرت أن أكتب تحت مظلة تقيني من الوابل الذي لا يقصدني شخصياً، لكنه يغرق الجميع بلا تمييز، ثم قررت في لحظة نزق أن أرمي المظلة جانباً وأنزل غير مكترث بتحذيرات الأطباء وخبراء الطقس، لأرقص تحت المطر في الشوارع المبتلة.
(2)
ما 30 يونيو؟
سيقول أحدهم: ثورة، فيرد الآخر بعنف: انقلاب.
توقفت قليلاً لأراجع هذه الصياغة المثيرة الجدل، وأعدت كتابتها على النحو التالي:
سيقول أحدهم: هي الانقلاب، فيرد الآخر: إنها ثورة شعبية جارفة.
إعادة الصياغة هنا لا تتعلق بالخلاف في توصيف 30 يونيو (ثورة أم انقلاب). لكنها تتعلق بسؤال: من منهما "الآخر"؟.. فالصياغة الأولى تصف أنصار الرئيس مرسي بـ"الآخر"، وفي هذا ما يكفي لعودة الجدال العقيم حول صياغة المادة الثانية من الدستور، التي كثيراً ما نتشاجر حولها (وحول هويتنا) في القاعات المختلفة، بينما نشارك جميعا في مسخ هذه الهوية، بانغلاق مخجل أو بتبعية طوعية لأطراف متنوعة خارج رؤوسنا وحدودنا، وخارج مفهوم "الهوية المتنامية"، بدلا من مفهوم "الهوية المحنطة" التي يتعارك الكل حول الأقنعة التي يجب أن نلبسها للمومياء، من دون تفكير في "هوية الأحياء".
(3)
ماذا أريد أن أقول؟
لا أحد يسألني هذا السؤال، فأنا أرقص.. لم أقل لكم أنني أريد أن اقول شيئاً، من شاء أن يشاركني الرقص فليبتهج، ولا يستخرج من جوفه حديثاً يوقظ الفتنة والشقاق، فما 30 حزيران/ يونيو إلا يوم من الأيام، هناك من احتفل به كعيد ثم جعل منه حائط مبكى، وهناك "آخر" جعل منه حائط مبكى ثم احتفل به كعيد!
يبدو تعريف "الآخر" هذه المرة في الجانب المضاد، لكنني على سبيل العناد وإعلاء الثقة في الذات، أرتاح لتوصيف "السلطة" بأنها "الآخر"، فأنا من الدستوريين المثاليين الذين يعتبرون المواطن هو الأصل والمصدر والثابت، بينما السلطة هي الآخر، هي العابر، هي الموظف الذي يجب أن نحاسبه بقدر صلاحياته ونقيله إذا لم يقم بواجبه.
(4)
تحسس أحدهم غضبه، ثم أشهر سؤاله في ظهري: هل تقصد أن إقالة مرسي في 30 حزيران/ يونيو كانت حقاً شعبياً؟
لم أعبأ بالسؤال، فأنا أرقص ولا أريد للغضب أن يفسد العقل ويعكر الود، لكنني بعد لفتين في الهواء، قلت للسائل: هل تعرف الفرق بين المثقف وبين الأعمى "اللي ممكن تيجي معاه طابات"؟
قال بضيق صدر: هات م الآخر.
كانت الخاء مكسورة، لكنني سمعتها مفتوحة، ليستقيم الحوار ويقترب من الثقافة أكثر، وقلت له وأنا أدخر عتابي: الثقافة أن تقوم بنفس الفعل كل مرة فتحصل على نفس النتيجة، والعماء أن تنجح مرة ولا تستطيع الحصول على نفس النتيجة؛ لأن هذا يعني أنك نجحت بمساعدة قوى أعانتك أو خدعتك واستخدمتك لمرة واحدة.
قطب جبينه ولم يفهم، فأكملت الرقص تحت المطر وأنا أقول لنفسي: 30 يونيو هي 25 يناير معكوسة في المرآة: مطالب جماهيرية تسرقها قوة بطش وتستخدمها لصالحها. لا تعنيني "هوية السلطة" في المرتين، فالهوية ليست للسلطة أصلاً؛ لأن السلطة يجب أن تكون على هوية المجتمع، وليس العكس، لكننا تحولنا مع طول القهر إلى أتباع للمماليك وحرافيش للفتوات، لا هوية لنا إلا ما يأمر به مولانا، ولا طعام إلا ما يجود به سيدنا، ولا طريق نسلكه إلا ما اختاره الحاكم القابض على العرش وعلى السيف.
(5)
كان يلعن اليوم المشؤوم الذي صعد فيه "أعداء الهوية المدنية" إلى قصر الحكم، فقال له أحدهم مؤنباً: لا تسب الدهر.
ولما مر العام، كان أحدهم يكيل السباب لنفس اليوم، وينعته ساخراً: 30 سونيا.
(6)
هذا الانقلاب النفسي والعقائدي والسياسي تجاه يوم واحد من أيام التاريخ، يكشف عن نظرتنا الساذجة للتاريخ، إذا كان اليوم لصالح فرقتنا امتدحناه وأعلناه عيداً، وإذا انقلب لصالح "الآخر" لعناه وسعينا لطمس اسمه وحذفه من التاريخ. هكذا نفعل ببساطة ما يفعله الحكام، من ملوك المصريين القدماء الذين كانوا يطمسون سيرة أسلافهم على المسلات والمعابد، وحتى ملوك الطوائف الذين يطمسون التاريخ ويلونون أيامه بألوانهم وأهوائهم، من دون أي اعتبار لذلك "الآخر" الذي لم نعرف يوماً من يكون، وبالتالي لم نعرف يوما كيف نتعامل معه: هل هو شريك مختلف يجب التعايش معه واحترام الاختلافات تحت سماء الوطن، حتى لو كانت ممطرة؟ أم أنه العدو الذي يجب أن نقصيه ونقاتله دفاعا عن هويتنا ودفاعاً عن أرضنا وعن حياتنا؟
(7)
قصة دوران الناس حول يوم ما، قصة قديمة تشير الميثيولوجيا أنها قد تكون واحدة من "الغرائز الخفية" المسكوت عنها في تكوين البشر، ولعل احتفالنا بأعياد الميلاد وأعياد الزواج ومئات المناسبات هو الجانب المتحضر من رواسب هذه الغريزة، حيث كان الناس في الأزمنة السحيقة يعتقدون أن لكل مولود "قرين حارس" بمثابة روح تلازمه وتحميه بأمر من الإله الذي يلتقي تاريخ ميلاده مع ميلاد الأشخاص الذين يتخذهم رعايا وعباداً له. وفي المقابل، هناك "قرين شرير" يحاول القضاء على ذلك الشخص في الذكرى السنوية لمولده، لذلك نشأت عادة الاحتفال بأيام الميلاد، فيجتمع الناس حول الشخص ويحتفلون بصخب لمنع "القرين الشرير" من إيذاء المولود، ويجب أن يكون صياحهم أعلى من أصوات اللعنات التي يصرخ بها "أهل الشر"، ليموت المولود الذي خرج للكون في ذلك اليوم: 30 يونيو.
(8)
لا تنسوا أن ما ورد في الفقرة السابقة من كلام الأساطير، لكن المؤسف أن لدينا من الناس ومن أهل الفكر والمعارضة من يمارس هذه الطقوس والأساطير باعتبارها "سياسة"، ولدينا في المقابل حاكم يدّعي المعرفة والتقدم، ويُنَصِّب نفسه "طبيبا للفلاسفة"، بينما هو كاهن قديم يؤمن بالخرافة والسحر، ويستخدم تعبيرات وتعويذات غامضة، مثل "أهل الشر"، ويهتم بصناعة تقويم خاص لأعياده يتنازع فيه مع "الآخر" على أحقية امتلاك واحتكار يوم في التاريخ كام مجرد يوم يدعى "30 يونيو".. قد يكون عيد ميلاد طفل مغمور، وقد يكون موعدا لختام السنة المالية، وقد يكون ورقة تقطعها من نتيجة الحائط وترميها إلى النسيان، لكنه للأسف تحول إلى طوطم، نتبادل نحن و"الآخر" عبادته والكفر به.
(9)
انتهى الرقص، ولم ينته المطر..
لا بأس، فأنا ممن يؤمنون بأن المطر لا ينزل لكي نرقص تحته وفقط، ولا لكي يعطل الناس ويحيل الدروب إلى أوحال، المطر غذاء الثمر..
اللهم انفعنا بما نخشى منه، وآتنا نفعا مما نتجنبه ونلعنه، فالأيام ليست لعنات، والبشر هم الذين يجعلون من أي يوم جيد أو سيئ، وكيفما كنت ترى 30 يونيو، يمكنك بعملك أن تجعل منه يومك، فلا تكتفي بسب اليوم.
#قاوم