هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
أتأمل ملياً في صورة متداولة إعلاميا، التقطها إنسان معاصر لإنسان يعيش في الألفية الثالثة بعد ميلاد المسيح، ثم أسأل نفسي متشككاً في وجود الحضارة والحداثة والسلام: رجل مقطوع الساقين يرتدي بقايا ملابس، ويواجه خطراً غامضا، بمقلاع بدائي في صحراء قاحلة لا نرى فيها إلا أعشابا جافة وأسلاكا شائكة، وأحيانا نشاهد في صور أخرى شبيهة سحابات من دخان أسود.. هل لاحظتم أنتم أية مظاهر للعالم الحديث والمواثيق الأممية، وصيحات الأزياء، وكل المخترعات التي يتحدث عنها الساسة وخبراء التسويق ومسوخ الإعلانات في كل مجال ومكان؟.. هل رأيتم طرقاً ممهدة تجري عليها السيارات العصرية الفارهة، وتنتشر على جانبيها لوحات الدعاية المضيئة بإبهار؟ أين البنايات الفخمة وناطحات السحاب؟ أين قاعات السينما وملعب الجولف ومدن الملاهي؟ أين المولات المهيبة وكرنفالات التسوق ومواسم البيع الكبير؟ أين المدارس والبيوت وإشارات المرور وأفراد الشرطة حماة النظام العام؟ أين مظاهر الدول والمجتمعات الحديثة؟ وإذا لم يكن ذلك كله يتوفر على الحدود (إذا كانت الصورة على حدود ما)، فأين الجيوش الرابضة على الحدود.. أين الأسلحة الحديثة التي ينفق عليها العرب المليارات؟.. أين حماة الأرض؟
(2)
فادي أبو صلاح اسم من ملايين الأسماء العربية التي عاشت في الظل.. لا يملك ثروة، ليس نجما في كرة القدم، لم يحصل على جائزة دولية في أي شيء، ولم يحصل على شهرته من الكتابة في الصحف أو العمل في السينما والفضائيات، لم يمتدح ترامب حذاءه، ولم يلتق سراً بالدبلوماسية اللعوب تسيبي ليفني، ولم يصافح نتنياهو أو يبتسم في وجهه، لا في الكواليس ولا في الكوابيس، لكنه ذات نهار قبل 10 سنوات فَقَد بيته ورجليه جراء "لقاء ودي" مع صاروخ صهيوني زار غزة لتفقد الأوضاع الإنسانية، لم ينته اللقاء الصاروخي بمأساة؛ لأن فادي انتبه للحقيقة المخبأة في أرض فلسطين، وهي أن استعادة بيته تتطلب استعادة الوطن المسلوب كله (أليست "هوم" في بلاد اللورد بلفور والعم تيودور روزفلت تعني البيت كما تعني الوطن كله؟)، كما اكتشف أن بتر ساقيه لن يصيبه بالعجز الذي أصاب الحكام العرب، لكنه فرصة لكي تقف قضية البلاد على قدميها.
(3)
قد لا تكون الصورة المتداولة لفادي أبو صلاح بشخصه، لكن من قال إن فادي يمثل نفسه وفقط؟ ومن قال إن صورة المقاوم يجب أن تخضع للمقاييس التي تشترطها السلطات لاستخراج بطاقات الهوية؟ الصورة المتداولة تتجاوز هوية الفرد، وتقدم نفسها كصورة واقعية للمقاومة، من دون أن تتخلى عن الجماليات والرمزيات والدلالات السياسية والإنسانية والميثيولوجية أيضاً. فهناك من يملكون الأقدام ليدوسوا بها فوق السجاجيد الحمراء وفوق حقوق الشعوب، ومع ذلك لا يجرؤون على الوقوف، بل يفضلون الانبطاح، ولا يملكون برغم (خزانات المال مخازن السلاح) أي كرامة أو إرادة أو عزم على استعادة الوطن وتحرير المقدسات المسلوبة، بينما فادي ورفاقه يملكون ويفعلون.
(4)
تقول التواريخ العجفاء إن فادي فقد ساقيه في 14 أيار/ مايو 2008، ثم بعد عقد كامل فقد حياته في 14 أيار/ مايو 2018، لكن التاريخ الحي يكذب هذه الوقائع المبتسرة، ويؤكد بغير شك أن فادي لم يفقد ولم يمت.. فادي ربح ولا يزال حياً، وقد ورد في مدونات أسطورة المقاومة أن فادي ولد من جديد يوم قصف بيته، وبعد بتر ساقيه كانت يداه تتحولان إلى جناحين يطير بهما وقت الكر على الأعداء.
قد يضحك روزفلت ساخراً وهو يعيد التأكيد على فضائل الرجل الأبيض في إبادة قبائل الهنود البدائية، موضحاً أن الجنود الأمريكيين البواسل قدموا خدمة كبيرة للحضارة الإنسانية باصطيادهم للمتوحشين البدائيين القذرين، بل وصفهم بأنهم "حيوانات"، وهو الوصف الذي يواصل رؤساء أمريكا استخدامه حتى اليوم برغم شعارات التعايش وقشرة الحضارة.. إن ترامب وهو يتفاخر بتنفيذ قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس، لا يمكن أن يرى فادي أبو صلاح كما يراه البشر الصالحون، لكنه سيراه كما رأى روزفلت الهنود الحمر، الفارق هنا أن الفلسطينيين غير قابلين للإبادة، وأن الموت الفلسطيني في جوهره ليس موتاً يؤدي إلى الانقراض، لكنه موتٌ ينصر الحق ويفضي إلى الحياة، كما أن مسيرات العودة ليست كرنفالات مشهدية أو احتفالات مناسباتية لكسر الملل؛ سرعان ما تعود بعدها الجماهير إلى وضعها المستكين بعد انتهاء "العرض"، لكنها موجات من الغضب الواعي المرتكز على الحق، لتذكير الأجيال (والعالم الحر كله) بأن أرضاً يجب أن تعود، وحياة يجب أن تعاش بعزة وحرية وكرامة، لذلك لا نراهن على ترامب ولا أسلافه العنصريين، لا نأبه بأي تيودور.. هرتزل كان أو روزفلت، ولا نثق في أن سلالة اللصوص القتلة يمكنهم رؤية "الصورة المتداولة" كما نراها نحن، ويراها ضمير الشرفاء في أنحاء الأرض.
(5)
هذا المقال ليس تمجيداً لشخص، فالشهداء ليسوا نجوماً يفرحون بمديح الألتراس والفانس، لكنهم أيضا ليسوا ضحايا نرثى لهم، أو خارجين عن القوانين نلومهم ونتبرأ منهم، لكنهم بشر عاديون يدافعون عن حياة كريمة يستحقونها ويكافحون من أجل استعادة البيت الذي سرقه الأوغاد، والبيت ليس المنزل وفقط.. فكلكم الآن صار يعرف أن البيت يعني "هوم"، وكلكم الآن صار يعرف أن فادي أبو صلاح اسم من ملايين الأسماء العربية التي عاشت في الظل، لكنها رفضت أن تعيش في جيتو الخوف أو تقبل بعار الذل.
#القدس_ستعود
#فلسطين_عربية