ليست مستغربة تلك الحفاوة التي قوبل بها ولي العهد السعودي محمد بن
سلمان في القاهرة، خلال زيارته التي استمرت ثلاثة أيام. وكانت باكورة تلك الحفاوة
ذلك الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بأحقية
السعودية في الجزر
المصرية
(تيران وصنافير).
فالزيارة
التي شهدت وعودا واتفاقيات لن تغيّر فقط شكل خريطة العلاقات بين البلدين؛ بل
ستغيّر شكل الخريطة الجغرافية لهما، فالزيارة التي استمرت ثلاثة أيام لها دلالات
في التوقيت وفي النتائج.
قد
يُفهم من اختيار محمد بن سلمان القاهرة في أول زيارة له خارجية منذ أن أصبح وليا
للعهد، في حزيران/ يونيو من العام الماضي، أنها رسالة للداخل السعودي في إطار خطته
التنموية التي أعلنها؛ والتي تمثل مصر جزءا منها، إلا أنها أيضا رسالة للخارج بأن
التنسيق بين أكبر دولتين عربيتين على قدم وساق، في ظل حراك شعبي استطاعا إخماده من
خلال ذلك التنسيق، وهو ما يمكن البناء عليه في موضوعات أكبر وأهم، في ظل ترتيبات
مهمة في المملكة يريد فيها بن سلمان أن يثبت كفاءة للغرب لتولي عرش بلاده، رغم
اعتراضات داخلية، وحتى خارجية، متعلقة بصغر سنّه وعدم خبرته.
وإن
كانت رسائل
ابن سلمان من خلال زيارته تضفي أهمية لزيارته للقاهرة، إلا أنها مهمة
كذلك للمضيف؛ فرأس النظام المصري قادم على انتخابات رئاسية يصفها العالم بالهزلية،
في ظل عدم وجود منافس حقيقي أمامه. لذا، فهو يحاول طرح نفسه للداخل والخارج على
أنه أولا يحارب الإرهاب بالنيابة عن العالم، وهو ما دعمه فيه ضيفه، وثانيا أنه مهندس
صفقات من العيار الثقيل تجلب النفع على بلاده وعلى جيرانه، وترسخ الاستقرار في
المنطقة.
لكن
زيارة ابن سلمان للقاهرة هي افتتاحية لجولة تضم بريطانيا والولايات المتحدة
الأمريكية، والاختيار بالطبع مقصود فيما لو عرفنا السبب الرئيسي لهذه الجولة.
فالجولة بالأساس، وبعيدا عن تلك الرسائل المذكورة، هي لوضع اللمسات النهائية لصفقة
القرن.
لكن
لماذا بدأها ابن سلمان بالقاهرة؟
الإجابة:
لأن القاهرة هي رمانة الميزان في تلك الصفقة، فهي الجار المباشر والفاعل الأقوى من
خلال العوامل التاريخية والجغرافية، مع وجود أوراق ضغط لديها لتفعيل الصفقة على
الطرف الأهم.. الفلسطينيين. كما أن ابن سلمان أراد أن يطّلع على آخر النتائج التي
وصلت إليها عملية سيناء الشاملة 2018، والتي استطاع فيها الجيش في مصر تمهيد
الطريق للصفقة من خلال تهجير أهالي سيناء لتفريغ المساحة المتفق عليها؛ لإتمام
الصفقة التي سيأتي على ذكر تفاصيلها في السطور القادمة.
فالاتصالات
التي جرت خلال الأيام القليلة الماضية، سواء قبل زيارة ابن سلمان للقاهرة أو
أثناءها، تؤكد أن الكل يهرول نحو تنفيذ هذه الصفقة. ولكل طرف من أطرافها أسبابه في
ذلك، فبالنسبة لابن سلمان والسيسي فأهدافهما عرفناها: الأول يريد إثبات كفاءة
لتولي العرش، والثاني يبرر توليه الرئاسة لمدة ثانية في انتخابات لم يقدم فيها
برنامجا، وسيكتفي بمليارات ابن سلمان مقابل أرض مصر كسبب كافي لبقائه على رأس
السلطة. لكنّ ترامب (راعي الصفقة) له أسبابه أيضا، فالضغوط التي تمارس عليه، سواء
من خلال قضايا فساد أو اتصال بدولة أجنبية (روسيا) وتلقي الدعم منها خلال الحملات الانتخابية،
وهي القضية التي تشهد تحقيقات الآن. وكذا عجز الموازنة والقرارات التي أعلن عنها
والتي قد تفضي إلى تسريح آلاف الموظفين قد تضغط عليه من جهة أخرى، حتى المستفيد من
الصفقة، رئيس وزراء الكيان الصهيوني أيضا، له مصلحة في التسريع في إتمام الصفقة
للتغطية على قضايا الفساد المتورط فيها، والتي خضع من أجلها لتحقيق دام خمس ساعات،
وينتظر استدعاءات أخرى لكون القضية ما تزال مفتوحة. وإن كانت القضية ورقة ضغط مهمة
على نتنياهو، إلا أنها ليست الوحيدة. فمشروع قانون تجنيد المتدينين اليهود يمثل
ضغطا سياسيا على الرجل الذي هدد بعضُ وزرائه بالاستقالة فيما لو طبق، وهو ما يعني
الإطاحة بالحكومة الائتلافية التي يرأسها.
كما
أن توقيت الزيارة التي هي تمهيد للصفقة مهم جدا في ظل انشغال العالم بالقضية
السورية، وما صحبها من تلاسن وتهديدات بين أمريكا وروسيا، حتى أن الأخيرة لوحت
بأسلحتها الجديدة في شكل من أشكال استعراض القوة، مع حوادث يمكن بها لفت الانتباه،
كقصف الطائرات الأمريكية للرتل الروسي في سوريا، واجتماعات لمجلس الأمن من أجل
الغوطة في ظل حديث عن احتمال اجتياحها.. هذه الحوادث تمثل غطاء جيدا لتمرير تلك
الصفقة.
هذا
يدفعنا للحديث عن الصفقة نفسها؛ والتي حتى الآن لم تعلن بنودها. وإلا فإن بعض
التسريبات أو الاستنتاجات قد تضع خريطة تقريبية لملامح تلك الصفقة، والتي
بالمناسبة بين يدي القيادة الفلسطينية بعد أن تم تنقيحها وتعديلها من القيادة
الأمريكية، والتي تنتظر جولة الرئيس عباس، والتي تسبقها الآن زيارة ابن سلمان
لتهيئة الأوضاع لقيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران، بعد
تعديل حدودها لتشمل الضفة الغربية في كونفدرالية مع الأردن لضمان الوصاية الأمنية
الأردنية، لحفظ أمن الكيان الصهيوني على تلك الحدود.
أما قطاع غزة فمصيره كمصير الضفة، لكن في كونفدرالية مع مصر على أن
تتعهد مصر بحفظ حدود قطاع غزة مع الغاصب الصهيوني، وهو ما يعني أن ضمانات مصرية
لأمن الحدود الكيان من الجهة الغربية قائمة في هذه الصفقة. وفي سبيل ذلك، فإن حركة
حماس ستتحول إلى حزب سياسي مع تفكيك جناحها العسكري وإلحاقه بالأجهزة الأمنية التي
ستقوم مصر بإعادة تأهيلها مع تغيير عقيدتها، كما نجحت في ذلك مع جيشها. وفي
المجمل، فإن عملية إنهاء القضية الفلسطينية على حساب إخراج القدس من الحسابات هو
همّ المهرولين لإنهاء الصفقة.
لكن
العنصر الذي لم يوضع في حسابات مهندسي الصفقة وعرابيها، هو عنصر الشعوب في معادلة
النضال المستهدفة بالاغتيال، وهذا العنصر كفيل بإلحاق الخسارة بكل تجار القضية
والمهرولين لوأدها.