فجأة استيقظ
المصريون على مارشات عسكرية وأغان وطنية واستعراضات عسكرية لقواتنا المسلحة وبيان من المتحدث الرسمي للقوات المسلحة يعلن فيه عن بدء
الحرب ضد الجماعات الإرهابية في
سيناء للقضاء التام على
الإرهاب، وإعلان عن تعطيل الدراسة في المدارس في سيناء، وإعلان حالة الطوارئ في المستشفيات، وقد سبقها قطع شبكات الإنترنت والاتصالات بصفة عامة عن سيناء تماماً، وعزلت المحافظة عن بقية محافظات مصر، أو بمعنى أدق حُوصرت بإغلاق الطرق والمنافذ المؤدية إليها من المحافظات المجاورة، ولزم الأهالي منازلهم وتحصنوا فيها خشية أن تصيبهم قذيفة من تلك القذائف التي انهالت كسيل المطر على أرض الفيروز، والتي لا تفرق بين المواطن المسالم وبين من يزعمون أنه إرهابي، فقصفت البيوت والمصانع، وأحرقت المزارع، وهلك الحرث والنسل!
ولأن النظام لا يزال يعيش في جلباب عبد الناصر، ولا يزال أسير حقبة الستينيات وإعلام أو إرشاد الحزب الأوحد، فقد اصطنع حرباً تلفزيونية؛ أملاً أن يجمع كل المصريين بمختلف مشاربهم وأطيافهم في بوتقة واحدة تصب لصالحه، كما يحدث في كل الحروب المقدسة التي تتلاشى فيها الأنا والذاتية المطلقة، وتنصهر في الذاتية الجمعية للوطن ويصبح الكل في واحد، ذلك أن الألم واحد والهدف واحد، والمصير واحد. هكذا أراد النظام، ولكن ليس كل ما يريده المرء يدركه!
حاول الإعلام أن يجعل المواطن يعيش أجواء تلك الحرب المزعومة، ويضعه تحت سمائها المصطنعة، مما يذكرك بأجواء ما قبل حرب 67 وتعبئة الجماهير للحرب ضد العدو الصهيوني، ولكن الفرق أن الجماهير في تلك الفترة كانت تتوق شوقاً لتلك الحرب المقدسة التي يظهر فيها العدو الذي اغتصب أرضنا واضحاً للجميع، فطار لها كل مصري شوقاً، وتمنى أن يشارك فيها ليقذف بإسرائيل في البحر، وليقضي ليلته في تل أبيب كما وعدهم وأمّلهم الزعيم جمال عبد الناصر!! أما جماهير اليوم الذين يريدون تعبئتهم ففي وادٍ آخر بعيد تماماً عن تلك الحرب المزعومة التي لا يعرفون عنها شيئاً؛ إلا من خلال ما تصدره القوات المسلحة من بيانات مبهمة يغلب عليها طابع التهويل، تذكرهم بتلك البيانات الكاذبة في حرب 67، والتي كانت تزف للأمة سقوط العشرات من طائرات العدو الصهيوني، ليتضح بعد الهزيمة الساحقة أن طائراتنا هي التي ضُربت قبل أن تُقلع من أرض المطار! كما أنهم لا يرون في تلك الحرب التلفزيونية عدواً واضحاً أمامهم، وكأنهم يُقاتلون شبحاً من الفضاء. وأضف لهذا شعورهم أنها تُقام على أراض مصرية، وليس دفاعاً عن ترابها كما في الحروب السابقة، والتي جعلت كل المصريين على قلب رجل واحد خلف قائدهم، حتى لو كانوا معارضين له ورافضين لسياساته.. كما أنها ضد أبناء من الشعب المصرى وليس دفاعاً عنهم، وهذا ما وضع حاجزاً نفسياً بينهم وبينها؛ جعلهم أقرب إلى رفضها من الترحيب بها، كما أراد النظام! خاصة أنه قد وصلت البجاحة بالخبراء الاستراتيجيين الذين يسوقون لتلك الحرب التلفزيونية أن يقولوا إن تلك الحرب المزعومة تهدف أيضاً لحماية الكيان الصهيوني من تسرب العناصر التكفيرية إليه، وهذا تصديق لما قاله
السيسي نفسه من قبل في أحد لقاءاته التلفزيونية؛ من أنه لن يسمح بأن تكون سيناء الحديقة (الخلفية لهذا الكيان الغاصب) مصدر قلق لجيرانه، من خلال تسرب الجماعات الإرهابية من سيناء إليها! إذن، لقد أحس المواطن بعبثية تلك الحرب التي لا ناقة له فيها ولا جمل، ولم يعتبرها حرباً مقدسة يفديها بروحه ودمه ويقف فيها خلف جيشه، بل رأى أنه يُزج بالجيش في محرقة في سيناء تشن بإسم القضاء على الإرهاب لحماية الكيان الإرهابى الأول في العالم، عدو الأمة التاريخي!
ومما يعزز كلامنا هذا، ما كشفته صحيفة "نيويورك تايمز" عن تحالف سري بين مصر والكيان الصهيوني؛ يتيح للأخير تنفيذ غارات جوية على محافظة سيناء (وقد نُفذت بالفعل أكثر من مئة ضربة جوية)، باعتبارهما متحالفين سراً في حرب خفية ضد عدو مشترك!
عدو عدوي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون عدوا لي، وأي حرب تشن من هذا المنطلق لن تجد مَن يؤازرها أو يتعاطف معها. فهي ضد مسار التاريخ والمنطق مهما حاولوا من غسل أدمغة المواطنين بآلة إعلامية جبارة لتغيير ثقافتهم وعقيدتهم، وتحويل بوصلة العدو وجعله صديقاً فلن يفلحوا، أضف إلى ذلك أن كلمة الإرهاب كلمة فضفاضة لم يتفق للآن على تعريفها دولياً، ولها حساسية خاصة لدى الشعوب المسلمة التي تشعر أنها موجهة ضد الإسلام منذ أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم (بعد سقوط الاتحاد السوفييتي)، وقول ريجان الشهير: قضينا على الأحمر ومعركتنا القادمة مع الأخضر، وتعزيزها بقول جورج بوش الابن قبل غزو أفغانستان: إنها حرب صليبية، وأخيراً ما قاله ترامب حول الإسلام.. كل هذا يجعلنا نرفض مثل هذه الحروب المشبوهة المغطى بكلمة براقة وهي القضاء على الإرهاب.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها الجيش المصري عن عملية شاملة للقضاء على الإرهاب، ولكنها المرة الأولى التي تأخذ هذا الشكل الاستعراضي وهذه القوات الضخمة من الجيش، (الجيش الثالث بأكمله)، لتقاتل أنفاراً يقال أن أعدادهم لا يزيدون عن 2500 مسلح حسب مصادرهم، كان آخرها عملية حق الشهيد، والتي أعلن بعدها أنه ثأر للشهداء وقضى نهائياً على معاقل الإرهاب في سيناء. ومع ذلك، زادت العمليات المسلحة من تلك الجماعات كما ونوعا، وانتشرت في طول البلاد وعرضها، فالدماء تغذى بعضها بعضاً! كما أن غياب الشفافية والمعلومات من جهات حيادية تجعلنا بعيدين تماماً عن حقيقة ما يجرى في سيناء، فالنظام يمنع دخول الصحفيين المصريين والمراسلين الأجانب لتغطية الأحداث هناك، بينما تنقل الشبكات التلفزيونية في العالم الحروب على الهواء مباشرة، كما حدث في حرب العراق، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن السر وراء حالة الضبابية أو التعتيم الإعلامي الذي يمارسه النظام في سيناء ظل السماوات المفتوحة؟! بل إنه في الظروف الطبيعية لا يستطيع المواطن المصري زيارة سيناء إلا بأخذ تصريح من الأمن، وكأن سيناء بلد آخر وليست محافظة داخل مصر!
ولكن الملفت للنظر في هذه المرة هو التوقيت الذي أعلن فيه عن تلك الحرب التلفزيونية قبيل الانتخابات الرئاسية بشهر تقريباً، مما وضع علامات استفهام كثيرة حول أهدافها الحقيقية، وخاصة أنه سبقها اعتقال رئيس أركان الجيش الأسبق والمرشح الرئاسي، الفريق سامى عنان، وما أشيع عن تذمر داخل الجيش للمهانة التي تعرض لها قائدهم، وتهديدات السيسى الأخيرة التي كانت مثار انتقاد مؤيديه قبل معارضيه، وسخرية المجتمع الدولي من مسرحية الانتخابات الهزلية التي قررت جميع القوى الوطنية والأحزاب مقاطعتها.. إذن، فهو في حاجة لتحسين صورته في الخارج وهذا هو الأهم عنده، وليس هناك صورة أحسن من أنه يحارب الإرهاب نيابة عن العالم كله، وأنه الحامي له، مع الادعاء بتحقيق نصر وهمي على الإرهاب والقضاء عليه قبل موعد الانتخابات وبهذا يستطيع أن يحصل على الدعم الإقليمي والدولي من استمرار نظامه، وأنه ضرورة لاستكمال المعركة وربما يحصل على التفويض العالمي لمحاربة الإرهاب الذي يسعى إليه..
وقد تستخدم هذه الحرب في وقف المسرحية الانتخابية، بزعم أن البلد في حالة حرب لا تسمح بأي عمل سياسي، وقد فعلها عبد الناصر من قبل أثناء حرب اليمن عام 1965، والسيسي يسير على هداه ويقتفي أثره!
لكن الهدف الأهم في اعتقادي من هذه الحرب العبثية؛ هو تفريغ المناطق المطلوبة لصفقة القرن في سيناء بحجة محاربة الإرهاب، وقد تتطور الأحداث بشن غارات إسرائيلية على غزة، وتقوم السلطات بفتح ممرات عبر الجدار الحدودي لتسمح بدخول الفلسطينيين الفارين من القصف ويتم استيعابهم في سيناء بدواعي إنسانية، على أن يتم تقنين ذلك لاحقا ضمن
صفقة القرن المزمع إعلان الرئيس الأمريكي ترامب عنها في شهر آذار/ مارس القادم.
وليس من قبيل الصدفة أن يحضر رئيس المكتب السياسي لحركة حماس
"إسماعيل هنية"، على رأس وفد رسمي من الحركة، مع بدء تلك الحرب العبثية في سيناء، في زيارة غامضة تثير الكثير من الريبة والشكوك حول طبيعة هذه الزيارة وهدفها الحقيقي، والذي من المؤكد أنه قد تعدى موضوع المصالحة مع فتح، خاصة وسط تسرب أنباء عن وجود محمد دحلان في القاهرة. فماذا يدور في الخفاء؟ وما هي الترتيبات التي تُعد وراء الكواليس؟ وما هي الضغوطات التي تمارس على حماس والتهديدات التي تتعرض لها؟ كل هذا ستكشف عنه الأيام القادمة، وفقاً لما ستسفر عنه نتائج تلك الحرب التي ربما تحدث تغيرات في المنطقة ككل.