هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
فتنة النظام الخاص
كان محمد نجيب شخصية متزنة ورائعة، وتعاونا معه من أجل مصر؛ لأننا كنا نشعر بأنه زعيم للبلاد. ولذا حاول عبد الناصر نشر بذور الفرقة بين صفوف الإخوان؛ فعمل على استمالة عدد من الإخوان، خاصة حينما اشتدت الأزمة بين المرشد العام وقادة النظام الخاص، بعدما صرح المرشد العام بأنه لا سرية في الدعوة بعد اليوم. وعلى إثر ذلك، اعترض عدد من قادة النظام الخاص الذين حاولوا جعل النظام الخاص كعهد الإمام البنا. ولذا صدر من الهيئة التأسيسية قرار بفصل عدد من الإخوة، وهم عبد الرحمن السندي، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال، غير أن هؤلاء الإخوة لم يرضوا بما حدث، وعمدوا إلى الاعتراض على ذلك، وتضامن معهم عدد من الإخوة، كالأستاذ صالح عشماوي، وعبد العزيز جلال، ومحمد الغزالي.
حاصرنا بيت المرشد
اجتمع بعض الإخوان بالنظام الخاص، واتفقوا على الذهاب إلى بيت المرشد العام بالروضة لسؤاله عن أسباب القرار، وصلى الإخوان المتفقون العصر في مسجد الروضة، ثم صعدوا إلى مسكن الأستاذ الهضيبي المقابل له. وجرى الحديث بصورة غير لائقة من قبل الشباب، وخرج بعضهم عن طور الأدب؛ لعدم اقتناعهم بما يجرى، وبعدم تقديم أي تبرير لهذا القرار، فطلب بعضهم من المرشد تقديم استقالته، لكن بعض الحاضرين من هؤلاء الإخوان آثر ألا تجري المناقشة على تلك الصورة، فانتقلوا جميعا إلى دار المركز العام للإخوان بالحلمية. وهناك طلبوا من أي مسؤول في الجماعة أن يحضر للتفاهم معهم، والإجابة عن أسئلتهم حول قرار الفصل. ولقد ذكر أ. أحمد عادل كمال أني كنت من هذه المجموعة، لكن هذا الأمر غير صحيح، فأنا لم أذهب لبيت الأستاذ الهضيبي، ولم أشارك هؤلاء؛ لأنني باختصار كنت ضد ما يقومون به، وملتزما بمنهجية الجماعة التي تربيت عليها.
بعدما فض الإخوة وقفتهم في بيت المرشد العام، واتجهوا إلى المركز العام، انضم إليهم الأستاذ صالح عشماوي، لكن عددا من الإخوة استطاعوا التدخل، وفضوا الأمر، وعقدت محاكمة للأستاذ صالح عشماوي، ومحمد الغزالي، وعبد العزيز جلال. وعلى إثرها، قررت الهيئة التأسيسية فصل هؤلاء الإخوة؛ لتجاوزهم في هذا الموضوع.
عقب جلسة الهيئة التأسيسية، قام المركز العام - قسم نشر الدعوة - بطبع رسالة بعنوان "حتى يعلم الإخوان – القول الفصل"، تضم قرار الاتهام الذي قدّم به مكتب الإرشاد الثلاثة المطلوب التحقيق معهم.
كانت معرفتي بعبد الناصر، وتعاملي معه في مواقف كثيرة، وراء يقيني بأن عبد الناصر له يد فيما يجري داخل الجماعة. ليس هذا فحسب، بل كان يحرك بعض أطراف الفتنة لتحدث هذا الانشقاق في الصف.
كان لهذه الفتنة تأثير كبير على الدعوة وعلى الأفراد، خاصة في مثل هذه الظروف. وزاد الأمر توترا استشهاد الأخ السيد فايز، في ظروف لا أتصورها إلا من باب سكب البنزين على النار لتزداد اشتعالا، والسؤال عن المستفيد من الإقبال على هذا الفعل المجرم. غير أني لم أكن في مكان يؤهلني للاطلاع على خفايا الأمور ومستجداتها، لكن استشهاده ترك أثرا عظيما في نفسي لمعرفتي به، وتعاملي معه؛ فقد كان ذا خلق رفيع، يحب دينه ودعوته، وكان نعم القائد للنظام الخاص في الفترة التي أعقبت الفتنة. رحمه الله رحمة واسعة، وألحقنا به على خير.
زيارة نواب صفوي واشتعال الموقف
في هذا الجو المشحون، حاولنا - في قسم الطلاب - الخروج بالطلاب من التفكير فيما يحدث، وقمنا بعمل العديد من الاحتفالات، لكننا فوجئنا بمن يريد أن يشعلها نارا، مما زاد يقيني بأن عبد الناصر لن يترك الجماعة تهنأ، خاصة أنه يراها العدو الأكبر له.
حرص جمال عبد الناصر على سرعة تصفية كل الشارع المصري من جميع السياسيين، بمحاكمات عسكرية تحت مسميات مختلفة، وتنتهي هذه المحاكمات إلى السجن أو الاعتقال، والتشريد، ومصادرة الأموال، ولا بأس أحيانا بالتشويه والطعن، وإساءة السمعة، لذلك أصدر قرارا بحل الأحزاب أواخر عام 1953م، واستثنى الإخوان من ذلك.
في الثاني عشر من كانون الثاني/ يناير عام 1954م، أثناء الاحتفال بذكرى الشهيد عمر شاهين وأحمد المنيسى، اصطدم الإخوان بمجموعة من الطلاب الذين يمثلون القطاع الشبابي في التنظيم السياسي الذي ترعاه الحكومة، هيئة التحرير (التي كانت الحزب الجديد الذي أنشأه عبد الناصر؛ ليستغنى به عن المساندة الشعبية للإخوان) داخل حرم جامعة القاهرة، وكان التلاميذ قد أحضروا إلى الجامعة شاحنات حكومية، ومعهم مكبرات الصوت، ليفسدوا على الإخوان احتفالهم، بإحداث بعض الشغب، لينفرط العقد، وينقسم الناس، ويتشاغلوا بفض النزاع، فينفض الحفل.
استضاف طلبة الإخوان الزعيم الإيراني الشهير نواب صفوى (زعيم "فدائيان إسلام" الإيراني، وأحد المعارضين لطغيان الشاه) الذي ألقى خطبة وسط صيحات الإخوان الذين تعالت هتافاتهم بشعارهم التقليدي "الله أكبر ولله الحمد". وقتها هاجم شباب هيئة التحرير الاحتفال، فلم يجد شباب الإخوان بدا من صد الهجوم، والرد عليه، ودفع ذلك الأخ محمود أبو شلوع وغيره؛ لأن يقوموا بحرق سيارة لشباب هيئة التحرير اقتحمت الجامعة.
خرج نواب صفوي من الجامعة، واتجه للمركز العام، حيث ألقى محاضرة لقاء الثلاثاء كذلك، في حين أغلقت الجامعة أبوابها بعد تلك الأحداث التي جرت..
أمر بالاعتقال
بعد انتهاء المحاضرة، عدت إلى منزلي، فوجدت المستشار فتحي عوض بانتظاري (وكان مدير مكتب الرئيس محمد نجيب)، وأخبرني أن مجلس الثورة حل جماعة الإخوان المسلمين في اجتماعه اليوم، ومطلوب القبض على 12 أخا قبل الساعة الثالثة صباحا، وأنا منهم، ثم صحبني معه إلى منزله، وكان مجاورا لمنزلنا. وفي الثالثة صباحا هاجمت منزلي قوة من البوليس الحربي والبوليس السياسي، وقاموا بتفتيش المنزل تفتيشا دقيقا، وكنت أنظر إليهم من منزل المستشار فتحي عوض. ومن ستر الله عليَّ أن الحجرة التي كنت أضع فيها الأسلحة التي تسلمتها من عبد الرحمن السندي، لأستخدامها في حرب الإنجليز، لم يدخلوها ولم يفتشوها؛ فقد أعماهم الله عنها.
وفي صباح يوم الأربعاء، ذهبت إلى جريدة "البلاغ" بعد أن اشتراها الإخوان، وكان بها الأستاذ سيد قطب، وكان مكتبي بجانبه، حيث كنت محررا في تلك الجريدة، وذهبت إلى عبد القادر عودة، وإبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، وأخبرتهم بما حدث. ولم يكن قد تم إذاعة أي شيء أو نشر القرار في الجرائد إلا يوم الجمعة التالي، على الرغم من القبض على الأستاذ حسن الهضيبي بالفعل، مع العشرة الباقين، ووضع بعض الإخوان في السجن الحربي، وتم فتح معتقل العامرية، وكنت أنا رقم 12، وكنت الهارب الوحيد. وطلب مني الأستاذ عبد القادر عودة والأخ يوسف طلعت؛ أن أقوم بزيارة وجه بحري، وأبلغ الإخوان ليأخذوا حذرهم. وفعلا قمت بزيارة جميع المكاتب الإدارية في وجه بحري والإسكندرية والغربية ودمنهور والمنصورة، وكانت آخر محطة لي في شبين الكوم، وكان يوم الجمعة الذي نشرت فيه الصحافة قرار حل الإخوان. وفي هذه الفترة التي هربت فيها منذ صدور قرار الحل حتى سلمت نفسي بناء على طلب الأستاذ عمر التلمساني والدكتور كمال خليفة؛ مرت بي أحداث طريفة تدل على أصالة الرجال من مصر وغير مصر.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (11)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (10)