امتدت حياة جو
بايدن السياسية أكثر من نصف قرن كان في معظمها عضوا في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ. ولم يكن برلمانيا عديم الخصال، فقد أظهر في خدمة ناخبيه في ولاية دالاوار تفانيا أكسبه سمعة حسنة.
ومن علامات فطنته وحسن اطلاعه، مثلا، أنه وجه إلى الفيلسوفة السياسية الشهيرة حنا آرندت في مايو 1975 رسالة يلتمس منها أن ترسل له نص محاضرة كانت قد ألقتها في بوسطن عن اتساع الهوة بين حقائق الواقع الاجتماعي وأكاذيب الخطاب السياسي في أمريكا. وربما لم يكن الوحيد، ولكن الأكيد أنه كان أحد الساسة الأمريكيين القلائل الذين يتجشمون عناء قراءة نصوص المفكرين السياسيين.
أما في مجال الانحياز الأعمى لإسرائيل، فهو لا يختلف عن زملائه من الساسة وأسلافه من الرؤساء الأمريكيين بالطبيعة، وإنما بالدرجة فقط. هم منحازون لها بنسبة 99 بالمائة أو أقل قليلا، وهو منحاز بنسبة مائة بالمائة. ذلك أنه ليس مجرد صهيوني سياسي بحكم الأمر الواقع الأمريكي، بل إنه «صهيوني فخور»: صهيوني إيديولوجي عن مبدأ وعقيدة. ويكفي شاهدا على ما يعتمل في صدره من حرارة الإيمان أنه هو القائل بكل صدق: إنه لا ينبغي للمرء أن يكون يهوديا حتى يكون صهيونيا.
وليس هذا بقول هين. فالذي يعنيه، إذا مضينا به إلى منتهاه المنطقي، هو أن الصهيونية هي الشرط الطبيعي للبشرية: هي صحيح العقيدة و«دين الفطرة»!
ولا يُنتقد الرجل على ما بدا من إغفائه أثناء اجتماعه قبل أسابيع مع بعض القادة الأفارقة في أنغولا. إذ ليست علامات الإجهاد دليل نقص في الكفاءة أو الأداء. فالمعروف أن الرئيس الجمهوري رونالد ريغان كان يغفو في معظم اجتماعات مجلس الأمن القومي، وأنه لم يكن ملما بالتفاصيل لأنه كان كسولا لا طاقة له بقراءة التقارير المطولة.
ولكن هذا لا يمنع أنه كان من أنجح الرؤساء الأمريكيين في السياستين الداخلية والخارجية، وأنه نال إعجاب جيل الشباب من الساسة الديمقراطيين، وفي مقدمهم بيل كلنتون، تماما كما كانت الزعيمة المحافظة مارغريت تاتشر موضع إعجاب العماليين الجدد، وفي مقدمهم توني بلير وغوردون براون.
وقد كنت مقيما بأمريكا عندما خاض بايدن السباق الحزبي عام 1987 آملا في أن يصير مرشح الديمقراطيين لرئاسيات 1988.
وكان الاعتقاد في البدء أن حظوظه قوية، ولكنه اضطر للانسحاب من السباق في 23 سبتمبر 1987 عقب اكتشاف الصحافة لأباطيله التي كان من أبرزها أنه ضمّن أحد خطبه مقطعين مُنتَحلَيْن من خطاب لزعيم حزب العمال البريطاني نيل كينوك. ولأن كينوك رجل سمح كريم بقدر ما هو خطيب مفوّه فقد تغاضى عن الأمر، ثم انعقدت بين الرجلين منذئذ عرى المودة! وكان الظن أن تلك ستكون آخر أخطاء بايدن العلنية.
الحضيض الترامبي الذي هوت فيه أمريكا يجعل من السهل تنسيب الجرائم وتهوين الخطايا
ولكن ما جازف باقترافه أخيرا يثبت أنه بلغ في سوء التقدير حدا لم يعد يعبأ معه بِمَ ستقضي بشأنه محكمةُ التاريخ. فقد أصدر عفوا رئاسيا «كاملا غير مشروط» عن ابنه رغم إدانته بتهم جنائية خطيرة، ورغم أنه سبق أن تعهد بعدم العفو عنه. وهكذا زعزع بايدن، بإفراطه في «حب الولد» كما يقول أسلافنا، الأساس الأخلاقي الذي يتيح للديمقراطيين (الذين سبق لبايدن ذاته أن أشاد بمرشحتهم الرئاسية كامالا هاريس قائلا إن ضميرها الأخلاقي يبوئها منزلة القدّيسة!) الحَمْل على فساد ترامب ومحاباته لأقاربه وما يعتزمه من العفو عن جميع المذنبين من خلّانه وأعوانه.
وقد أجمع المعلقون الأمريكيون على أن بايدن دنّس شرف الرئاسة وفاقم أزمة الثقة بين الجمهور والساسة. ولكن بما أن الحضيض الترامبي الذي هوت فيه أمريكا يجعل من السهل تنسيب الجرائم وتهوين الخطايا، فقد التمست غايل كولنز في تعليق طريف بعض ظروف التخفيف قائلة: من الألطاف أن بايدن لم يعين ابنه سفيرا، تعريضا منها بترامب الذي عين والد صهره سفيرا في باريس رغم إدانته بتهم أخلاقية وجنائية.
إلا أن المفكر البلجيكي مارتن لغرو قد استبان تماثلا وتواصلا، في مجال الاستهتار بالحق والقانون، بين عفو بايدن عن ولده وبين إعلان فرنسا اعتزامها عدم اعتقال نتنياهو وغالانت بزعم أن إسرائيل ليست طرفا في معاهدة روما المنشئة للمحكمة
الجنائية الدولية. ذلك أن فرنسا نسيت في غمرة هذا التذاكي المعيب أنها، وجميع الدول
الغربية، قد رحبت بمذكرتيْ اعتقال ميلوسفيتش وبوتين رغم أن صربيا وروسيا ليستا من أطراف المعاهدة!
القدس العربي