مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (6)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

في قلب فلسطين

قام النظام الخاص بجمع الكثير من الأسلحة من الصحراء الغربية، ومخلفات الحرب العالمية الثانية، وقمنا بتجهيزها، وتزويد المجاهدين المتجهين إلى فلسطين بها، وكنت واحدا ممن عمل على ذلك.

حضر إلى العريش الإخوة الشيخ محمد فرغلي، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، (أعدمه جمال عبد الناصر عام 1954)، والصاغ محمود لبيب، قائد عام جوالة الإخوان المسلمين وعضو مكتب الإرشاد، والأستاذ محمود عبده، قائد متطوعي الإخوان المسلمين في بئر سبع، ونصحوا المقدم أركان حرب أحمد عبد العزيز؛ بأن تدخل الكتيبتان فلسطين عند الحدود عبر السكة الحديد مطفئين أنوار السيارات، حتى لا تشعر القوات الإنجليزية بهم؛ فتعرض قوات المتطوعين للخطر. وتم تنفيذ العبور بمجهود شاق، وصمت تام عبر رفح المصرية الفلسطينية، ثم انطلقت قواتنا المحملة بالسيارات متجهة صوب خان يونس.

بدأت أول معركة للفوج الأول من "الإخوان المسلمون" المتمركز بمعسكر "البريج" بغزة، تحت قيادة الشيخ "محمد فرغلي"، ومعه الإخوة: "كامل الشريف"، و"يوسف طلعت"، و"حسن عبدالغني"، و"حسن دوح"، و"محمد سليم"، و"نجيب جويفل"، وغيرهم ضد اليهود في مستعمرة "كفار ديروم" جنوبي "دير البلح".

هاجم "الإخوان" المستعمرة في الساعة الثانية صباح يوم السبت 10/4/1948م، ونجحوا في المرور خلال حقول الألغام عبر ممرات أعدوها طوال الأسبوع الذي سبق المعركة، واجتازوا عوائق الأسلاك الشائكة.. كل هذا تمَّ بدقة وسرعة، دون أن ينتبه حراس المستعمرة لما يجري حولهم، ولم يفيقوا إلا على صوت انفجار هائل أطاح بأحد مراكز الحراسة، ثم بدأت المعركة داخل الخنادق، وعلى الأبراج والدشم. وجرح قائد السرية الشهيد "يوسف طلعت"، وتقرر إخلاؤه من الميدان، وتولّى قيادتها الأخ المجاهد "كامل الشريف".

ولما اشتد الضغط على اليهود في فلسطين، وكذلك داخل مصر أيضا، تمت المؤامرة الكبرى بين سفراء فرنسا وأمريكا وبريطانيا في اجتماعهم في فايد، وأصدر النقراشي قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1948، وسيق الإخوان أفواجا أفواجا إلى المعتقلات، ودماؤهم لم تجف بعد في فلسطين.

مع ذلك، استمر الإخوان في جهودهم الساعية لتوفير الدعم لمجاهدي فلسطين، والعناية بمشكلاتهم الأخرى التي تفاقمت جراء تزايد أعداد اللاجئين والمشردين من ديارهم وممتلكاتهم. وقد أدى هذا النشاط المكثف الذي بذله الإخوان؛ إلى إزعاج السلطات المصرية، والدوائر الاستعمارية، فقامت الحكومة المصرية برئاسة النقراشي باشا - آنذاك - أولا بمنع الإمدادات التموينية عن مجاهدي الإخوان، وثانيا إصدار أوامر باعتقال مجاهديهم في ساحات القتال.

انتهت حرب فلسطين بوقوع الجيش المصري في حصار الفالوجا، والذي سطر فيه أخونا معروف الحضري؛ بطولات نادرة، وتضحيات جمة لمساعدتهم، إلى أن عقدت معاهدة رودس في آذار/ مارس 1949م، وعاد الجيش المحاصر وضباطه.

وما زلت أتذكر ما قاله اللواء أحمد المواوي، أول قائد عام لحملة فلسطين: إن الإخوان سبقوا الجيوش النظامية، وأن القوات المسلحة كانت تعتمد على الإخوان كقوة حقيقية، وأن روحهم المعنوية كانت عالية.

مقتل النقراشي

بعد قرار حل الجماعة في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1948م، والقبض على قادتها، طلب النقراشي من أحمد فؤاد صادق؛ القبض على كل المجاهدين الإخوان أثناء الحرب (إلا أنه رفض)، وبذلت محاولات مستميتة لفصل الإمام حسن البنا عن أفراد الجماعة. في هذه الأثناء، تحرك عدد من شباب الإخوان، وخططوا دون علم أحد من الإخوان لقتل النقراشي، ردا على الأفعال التي قام بها نحو مصر ثم الإخوان. وبالفعل تمكن عبد المجيد أحمد حسن من دخول وزارة الداخلية بملابس ضابط، وقتل النقراشي في كانون الأول/ ديسمبر 1948م، وألقي القبض عليه. ووقتها شعرنا أن الإمام البنا في خطر، لكننا سرعان ما اعتقلنا وزج بنا في السجون دون تهمة، سوى أننا من الإخوان. وفي شباط/ فبراير 1949م، علمنا باستشهاد الأستاذ حسن البنا أثناء خروجه من جمعية الشبان المسلمين، وترك في القصر العيني حتى نزف دماءه دون أن يسعفه أحد.

السيارة الجيب والوقوع في الفخ

خلال الحرب في فلسطين، وقعت حادثة السيارة الجيب التي كشفت تنظيم النظام الخاص، وقبض على العديد من قيادته، وقدموا إلى المحاكمة. وحاول البوليس السياسي والنيابة إلصاق التهم بالإخوان، غير أنهما لم يستطيعا، حتى إن المحكمة حكمت بنبل أهداف جماعة الإخوان المسلمين، وذكرت أن بعض الشباب حاد عن فهم هذه الأهداف النبيلة. وحُكم على عدد منهم بالسجن ثلاث سنوات، وتم تبرئة الباقين. صحيح أنه لم يتم القبض عليّ في هذه القضية، بسبب طبيعة هيكل النظام الخاص العنقودي الذي قطع الصلة بين الأفراد، لكن كان لدي موعد مع المجهول.

رحلة إلى المجهول

بعد مقتل النقراشي، حورب الإخوان بضراوة، وقبض عليَّ في 29 كانون الأول/ ديسمبر 1948. وظننت أني سأتهم في هذه القضية؛ لمعرفتي الوثيقة بعبد المجيد وأحمد فؤاد، والأخير كان ضابطا وقد قتلوه وهم يطاردونه في بنها؛ لأنهم اعتبروه مشاركا لعبد المجيد في مقتل النقراشي، ولكني فوجئت بأنهم لم يحققوا معي في هذه القضية، وأرسلوني إلى معتقل الهايكستب، ومن ثم إلى معسكر الطور.

كان معتقل الهايكستب (معتقلا شبه خاص) لا يعتقل فيه إلا أبناء الباشاوات، وأبناء أصحاب النفوذ، وكان اليهود المعتقلون يسكنون العنبر المجاور لنا، وكان معي هناك - على ما أذكر - الأخ كمال فريد، ابن فريد حلمي باشا، ومحمد الطوخي، ابن إبراهيم دسوقي باشا. ثم قام عبد المجيد أحمد حسن، المسؤول عن المعتقل، بفصل ذلك كله، نصارى ومسلمين! وبدأوا يحضرون إخواننا المعتقلين من الأقاليم، أما باقي الإخوان فكانوا معتقلين في معتقل الطور.

كنا بسجن جبل الطور حوالي 400 طالبا، وكان معنا الشيخ القرضاوي، والشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق، والأستاذ سيد عبد الحميد، والأخ طاهر المنير. وكان رمضان في سجن الطور مختلفا وجميلا، حيث التفرغ للقرآن والقيام. وخلال هذه الفترة كانت هناك منحة ربانية في آخر رمضان؛ بإقالة وزارة إبراهيم عبد الهادي، ثم بعد ذلك ذهبنا إلى سجن قنا. وأتذكر أننا كنا حريصين خلال هذا الشهر على أن نعد أفضل الطعام لكل المساجين، من الإخوان وغيرهم، كما كنا نقيم احتفالات ضخمة للمساجين في الأعياد، بل إننا كنا نقدم لهم الكعك والبسكويت خلال عيد الفطر.

وقد كان معتقل الطور فيما مضى مكانا يتوقف فيه حُجَّاج البواخر لإجراء الكشف الطبي بعد عودتهم من الحج، في ما يسمى "الحجر الصحي"، فتم تحويل هذا المكان إلى معتقل للإخوان.

كان يبدأ يومنا قبل الفجر بأكثر من ساعة، حيث يستيقظ الإخوة تباعا استعدادا لصلاة الفجر، وقيام الليل. وما زلت أذكر أحد الإخوة كان يمر على العنابر في السحر، وينشد بصوت ندي رخيم:

يا نائما مستغرقا في المنامْ ... قم فاذكر الحيّ الذي لا ينامْ

مولاك يدعوك إلى ذكره ... وأنت مشغول بطيب المنامْ

وحين نسمع صوته ننهض من نومنا لنتوضأ، ويصلي من شاء منا ما يتيسر له، أو يتلو كتاب الله تعالى، أو يذكر الله كثيرا.. فكانت العنابر إذا مررت عليها قبل الفجر وجدتها تدوي بالذكر وتلاوة القرآن كدوي النحل. وما إن يؤذن الفجر، حتى يهرع الجميع إلى المسجد لصلاة ركعتين قبل صلاة الفرض، ثم يتقدم الشيخ الغزالي ليصلي بنا.

وبعد صلاة الفجر وختام الصلاة؛ نقرأ المأثورات، ثم نجتمع في حلقات دراسة مع المشايخ حول بعض الموضوعات الدينية والعلمية، ثم يبدأ نشاط آخر، هو النشاط الرياضي. وكنت أقود النشاط الرياضي، حيث نقوم بعمل التمرينات التي يسمونها "التمرينات السويدية"، ثم تمرينات الركض (الجري) والوثب والزحف، وغيرها. نستمر في ذلك صباح كل يوم نحو ساعة، ثم ننصرف لتناول الفطور، ثم نستكمل برنامجنا طوال اليوم.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (5)

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (4)

التعليقات (0)

خبر عاجل