تتوالى الحلقات في مسلسل العمارة "
العربية" المتهالكة التي نخر الدود أركانها منذ عقود، وانتشرت فيها العداوات والحروب والدسائس والاستعانة بالأغراب بين الجيران، صعودا وهبوطا، في حبكة درامية متنافرة لا ناظم بينها، أو هكذا تبدو، بشكل ينبئ أننا دخلنا مرحلة "النوفيلا" التي أبدعت فيها دول أمريكا اللاتينية وبثتها القنوات العربية مدبلجة بمئات الحلقات.
في النوفيلا اللاتينية مجرد مشاهد داخلية لصراعات أفراد العائلة الواحدة وخياناتهم ودسائسهم التي لا تنطفئ جذوته،ا حتى تستعر من جديد.
ما يحدث في العمارة العربية على النهج ذاته يسير. المصيبة أن تأليف السيناريو مهمة موزعة بين أفراد خلية كتابة لا يجمعهم ود ولا يربطهم أدنى توافق في رسم الشخصيات والمسارات، فكل يكتب حلقاته وفق أهوائه وطموحاته وعلاقاته مع الممولين.
أحدهم اعتمد تقنية الفيلم داخل الفيلم، وأوحى لأحد أبنائه الطيعين بتجهيز حلقة، على عجل وخارج السياق، من
مسلسل هزلي بعنوان "سيلفي" خصصها للتعريض بشقة الشقيقة "الصغرى" بمن فيها مواطنين ومقيمين.
أبناء كثير من العمارة العربية بأدوارها المختلفة لا يفلتون الموعد أمام الشاشات لمتابعة مسلسلات وبرامج أعدت خصيصا للشهر الكريم، وهم غافلون أنهم مجرد شخصيات في مسلسل أضخم أعد ولا يزال الإعداد له متواصلا في "غفلة" من الجميع أو تواطئ أو خضوع واستسلام.
في أحدث حلقات المسلسل الهزلي، الذي بدأ يفقد عناصر الإثارة فعوضها بالاستثارة، "زلزال سياسي" يضرب أرجاء البيت الأكبر في العمارة تغيرت معه ملامح القيادة فيه وطرق تداولها بل ربما تدبير الخلاف والصراع على الزعامة بين أفرادها.
صحيح أن الجميع كان على علم بالتدابير، الخفي منها والعلني، للوصول إلى التنصيب، لكن المفاجأة كانت في التوقيت، على الرغم من أن الإعلان عن الموضوع احترم موعد الفجر ميقاتا.
شقق العمارة العربية، وبالأخص الدور الخليجي منها، تغلي على وقع أزمة لا سابق لها.
ولأن المتدخلين في سير الأحداث كثر، فقد انتقلنا ممن يبشر بانتهاء المسلسل مع تباشير عيد الفطر إلى ما يدعي علما أن النهاية أبعد ما تكون عن الأنظار.
هي حرب نفسية توزعت فيها الأدوار بين الأبناء الأكثر جدلا واندفاعا بما حملته من سوقية في الألفاظ وتدن في الأخلاق. ليس في الأمر ما يدعو للغرابة فكل إناء بما فيه ينضخ.
في شقة الأخت بعيدة النسب، التي لا تكن للشقيقة "الصغرى" المحاصَرة أي ود منذ سنوات، اشتكى مختطفها، بالغصب والانقلاب على من اختاره الأهل ربا للعائلة بالانتخاب، من أن هاتفه لم يعد يسمع له رنين. ليس في العمارة من أعطاب في الاتصالات، فمعظم هواتف الشقق لا تكف عن الرنين ومعها هواتف عمارات مجاورة تباهى عدد من أربابها أو مساعديهم بعدد المكالمات التي أجروها لحلحلة أزمة "الأشقاء".
تنوعت أشكال التواصل بين مختلف الشقق والعمارات والأدوار، لكن حظ الانقلابي ظل صفرا على اليمين فلم يعره أحد من المؤثرين في شؤون العمارات أدنى اهتمام. سلفه، غير المأسوف عليه، لم يفوت الفرصة في تسريب ليدق مسمارا في "نعشه" والقول إن "العالم كله مستهيفنا الآن والكل عارف إننا دولة ضعيفة". الانقلابي لا هم له غير الاستمرار في المشهد ولو استدعى الأمر تنظيم حفل إفطار في استراحة لا يعرف لها مكان في العمارة ونواحيها.
مساحة الشقة بالمناسبة تقلصت رسميا وصارت أضيق بعد بيع أجزاء منها للأخ "الأكبر" الطامح في حدود أقرب لكيان دخيل أرسى له مستوطنات داخل العمارة منذ عقود، ولا نهاية للأحداث دون ذروة عمادها تطبيع كامل مع الكيان الدخيل وتلك مهمة العميل/ رب "الدولة الضعيفة" وضامن استمراره في الغي والبهتان.
النكتة أنه ما يزال هناك من تملكه الإحساس بالضعف والهوان أمام “الدولة الضعيفة"، فركض إلى شقة "الأخت غير الشقيقة" لتقديم الدعم لها في مواجهة "الإرهاب"، والهدف كله كان إعادتها لبعض نشرات الأخبار. زيارة مثل هذه في الظروف التي تشهدها المنطقة لن تكون إلا استمرارا لحلقات الاجتماع على الباطل، الذي ينتهي كل مرة بإصدار لوائح أشقياء أو عمليات اعتداء على الجيران على المقاس وربما يكون للأمر علاقة بما هو أخطر من زيارة مجاملة على الحساب. معروف أن الفشل يولد كثيرا من الارتدادات المتهورة التي قد لا تبقي ولا تذر.
في شقة الشقيقة "الصغرى" حركة دؤوبة ولقاءات متواصلة ومناورات مع الحلفاء، وانتظار للائحة "اتهام" طال انتظارها. وإن صدقنا بعض ما يردنا من لقطات المسلسل المصورة بالعمارة الأمريكية حيث الراعي الرسمي، فقد ضاق درع الأخير بالتسويف والتمطيط في الأحداث.
أبناء هوليوود يعرفون أن الوقت مرادف للمال، وهم بالضرورة يعلمون أيضا أن شقق الدور الخليجي، مسرح الأحداث بالعمارة العربية، لها من المال والوقت ما يكفي لحرب استنزاف تمتد عبر الزمان، أو هكذا تظن. بقية الشقق، ديدنها متابعة للأحداث ونأي عن النفس أقرب للانتهازية منه إلى الحياد، في انتظار اليوم الذي سيعجزون فيه عن الرد على السؤال: لم تركتم قطر وحيدة في المواجهة؟
يبدو أن نبوءة برايان وودمان وهو يحدث الأمير ناصر في فيلم (سيريانا) الذي صورت أحداثه في بعض من شقق العمارة العربية، وشاهده كثير من أبنائها فرجة لا تحليلا وقراءة واستنتاجا، أقرب ما تكون للتحقق واقعا قبل وقتها الموعود بعقود.
يقول برايان: أتعرف ما يقال عنكم في أوساط المال والأعمال؟ يقال إنكم كنتم قبل قرن تعيشون في الخيام وتستمتعون بقطع رؤوس بعضكم البعض. وما عليكم غير انتظار مائة سنة أخرى لتعودوا إلى ما كنتم عليه.
نعيد التذكير بأن بعض التجارب الفنية اعتمدت تقنية ترك تحديد النهاية للمتفرجين. لكن الشقق المحاصِرة لن تقبل المغامرة في هذا الاتجاه حيث أن المنع والتضييق والإصرار على الرواية الوحيدة لم تفلح كلها في شحذ الأبناء وراءها، فكيف لها أن تضمن نتيجة تصويت مفتوحة قد تشكل بداية النهاية لعقدة "الخوف" في نفوس أبنائها بشكل يهدد مصالح المالكين بزمام الأمور بها؟
السياسة الجديدة للراعي الرسمي، الذي اختفت شخصيته بشكل مريب عن الشاشة تغريدا وظهورا، لم يعد يأبه بإشراك الأهالي في تسيير شؤون بيوتها ولا بالدفاع عن المضطهدين داخل أسوارها، فصنبور الأموال المتدفق من خزائن "ولاة الأمر" تبرر الطغيان والطاعة والخنوع.