على مدار الأسبوع الماضي، ظهرت بالإعلام
المصري والأجنبي عدة تصريحات هامة جدا، لو ربطنا بينها بشكل واضح لرأينا صورة مجاعة وعطش بالدولة المصرية لم تحدث بتاريخ هذا البلد منذ أيام الشدة المستنصرية في نهاية القرن الـ11 الميلادي، أي قبل 1000 سنة مضت، حيث توقف نهر
النيل عن فيضانه في أشهر الصيف ولمدة سبع سنوات عجاف أتت على معظم الشعب المصري، وأخرجت من داخله أسوأ ما فيه من أخلاق وقيم، حيث كان الرجل يخشى أن يموت من الجوع بوسط الشارع فيأكله جيرانه، بينما انتشرت البلطجة في الشارع المصري بشكل هدد كيان الدولة. ويذكر ابن إلياس أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها.
لم تكن الشدة المستنصرية هي الأولى في تاريخ مصر، بل تكررت من قبل عدة مرات، وربما لم يسجل التاريخ والأديان منها إلا شدة النبي يوسف بن يعقوب، والتي ذكرت تفاصيلها في جميع الأديان السماوية. وكيف أن النيل جف لمدة سبع سنوات عجاف جعلت المصريين يبيعون أنفسهم لأغنياء القوم كعبيد مقابل إطعامهم ومدهم بالحبوب، فباع الرجل زوجته وابنته بعدما باع ابنه من قبل.
عندما تناقش أي مواطن مصري اليوم عن احتمالية حدوث شدة مثل الشدة المستنصرية قريبا على أرض مصر، بعدما أعلنت إثيوبيا عن نيتها بدء التخزين بسد النهضة مع بداية فيضان النيل الأزرق في شهر تموز/ يوليو القادم، أي بعد قرابة شهر من اليوم، يجيبك على الفور بأن مصر مذكورة في القرآن، وأن الله حاميها من كل شر ولن يصيبها ما أصاب الدول الأخرى من جفاف وعطش.
وتزداد حيرتك عندما تكتشف أن ما يقوله المواطن المصري ليس مجرد رأي، بل اعتقاد إيماني متين. وربما يرجع هذا الأمر نفسيا لكوننا، كأبناء الشعب المصري، لم نأخذ نهر النيل يوما مأخذا سلبيا، ولم يخطر ببالنا يوما أن نتساءل: هل جريان النيل بأرض مصر هو أمر بديهي، مثل وجود شواطئ للبحر بالإسكندرية ومرسى مطروح؟ أم أنه قد يكون أمرا عارضا وقد يتوقف يوما عن الجريان بأرض مصر؟
الواقع الجديد يؤكد أننا كشعب مصري تغافلنا عن الإجابة الصحيحة لهذا السؤال، وارتحنا لما في ضمائرنا من إيمان وعقيدة بأن مصر محفوظة في القرآن والإنجيل، وأنها مأوى الأنبياء على مدار التاريخ. فقد هاجر إليها نبي الله إبراهيم عندما تعرضت بلدته للجفاف، وهاجر إليها نبي الله يعقوب أيضا بعدما تعرضت بلدته للجفاف وقلة الحبوب، واحتلها الإغريق والرومان لسرقة ما لديها من خيرات زراعية وحبوب أنعم بها الله على شعبها من خلال نهر النيل.
ولذلك، فإنه أن يتخيل المواطن المصري اليوم تعرضه هو وأولاده للعطش والجفاف يوما قريبا هو أمر أكبر من قدراته التخيلية، فإيمانه يجعله يرى
الجفاف واقعا على الآخرين، ولكن أبدا لن يصيب مصر المحروسة.
وبينما المواطن المصري المتدين بطبعه غارق في إيمانه بـ"مصر المحروسة"، نشرت القناة الثانية الإسرائيلية الأسبوع الماضي تحقيقا أعلنت فيه إسرائيل اكتمال بناء جدار عازل يمنع نزوح الشعب المصري إليها يوم يتعرض للعطش بسبب سد النهضة.
إسرائيل التي كان أهم مطالبها سابقا هو تشجيع المواطنين المصريين على التطبيع معها؛ قد استكملت بناء جدار عازل لمنع دخول المصريين إليها عند ظهور نتائج جفاف النيل قريبا بسبب سد النهضة. هذا في وقت يتجاهل فيه الإعلام المصري تماما تبعات سد النهضة، بل إنه يتعمد إغراق الشعب المصري في التفاهات والإسفاف وأخبار الفنانين، وكأن سد النهضة يُبنى باليابان وليس له أي تأثير على الشعب المصري.
لم يكتفِ القدر بصفعته للدولة المصرية وإظهارها على أنها عالة حتى على إسرائيل التي كانت تتمنى التطبيع مع الشعب المصري قبل سنوات مضت، فإذا بها اليوم تبني جدارا عازلا تمنعه من الوصول إليها. فلقد أعلن المهندس عبد اللطيف خالد رئيس قطاع توزيع
المياه بوزارة الري، يوم 20 أيار/ مايو، أن فيضان عام 2016 كان هو الأسوأ منذ 113 سنة، وأن الوزارة قد سحبت من المخزون الاستراتيجي لبحيرة ناصر أي المخزون الميت تحت 147.
وعلى الجانب الآخر من وزارة الري، صرح المهندس هاني دعبس رئيس قطاع الري بالوزارة؛ بأن الوزارة، والتي تسحب من المخزون الميت لبحيرة ناصر، قد قررت صرف 250 مليون متر مكعب يوميا بداية من 20 أيار/ مايو، والذي هو بداية ري المحاصيل الصيفية، والتي تحتاج تصريفا يعادل 250 مليون متر مكعب يوميا حتى نهاية شهر تموز/ يوليو 2017. والسؤال هنا: هل سحب 250 مليون متر مكعب يوميا من المخزون الميت لبحيرة ناصر ولمدة تعادل 70 يوما أمر يستحق أن نقف عنده ونتساءل: وماذا بعد؟
والسؤال أيضا: ماذا بعد سحب كل تلك المياه من المخزون الميت لبحيرة ناصر؟ كم سيتبقى للشعب المصري؟ وهل سيكفي هذا لإنقاذه من شدة مستنصرية جديدة؟
الإجابة تأتي إلينا من خلال قراءة القمر الصناعي Janson3 التابع لوزارة الزراعة الأمريكية، والذي يتابع مناسيب بحيرات السدود حول العالم، ويلتقط صورة لبحيرة ناصر كل 10 أيام، حيث أكدت القراءت الحديثة للقمر الصناعي أن منسوب بحيرة ناصر قد انخفض عن المنسوب الأعلى للتخزين الميت بــ52 سم يوم 2 أيار/ مايو 2017 ثم توالى الهبوط حتى 86 سم يوم 12 أيار/ مايو.
معنى هبوط منسوب بحيرة ناصر بــ86 سم عن منسوب التخزين الميت ببحيرة ناصر؛ يعني ضمنيا أن توربينات السد العالي متوقفة منذ شهر شباط/ فبراير الماضي، حيث هبط منسوب البحيرة لــ150 فوق سطح البحر، وهو منسوب توقف التوربينات الأمريكية الحالية، والتي تم إحلالها مكان التوربينات الروسية التي كانت تتوقف عند منسوب 147.
وعليه، فعندما يكون منسوب البحيرة يوم 12 أيار/ مايو يعادل (147- 0.86= 146.14)، ثم نخصم منها ما تم صرفه لري المحاصيل الصيفية أي (250 مليونا *70 يوما= 17.5 مليار متر مكعب)، فهذا يعني أن ما تبقى من المخزون الميت لا يزيد على 10 مليارات متر مكعب، فإجمالي المخزون الميت يعادل 31 مليار متر مكعب منها مليارا متر مكعب ترسيبات طينية و29 مليار متر مكعب ماء.
فهل ما تبقى من ماء بعد ري المحاصيل الصيفية يكفي الشعب المصري؟ هل 10 مليارات متر مكعب كافية لسد ظمأ الشعب المصري؟ وهل تلك الكمية كافية أن تجري في المقاطع المفتوحة لنهر النيل والترع حتى تصل لمحطات التحلية بالإسكندرية والقاهرة ومدن الوجه البحري؟
بالطبع هذه الكمية غير كافية بتاتا لملء مقاطع نهر النيل والترع ما لم تأتِ تدفقات ضخمة من إثيوبيا تعيد بناء المخزون الميت. وهذا لن يحدث هذا العام أو العام المقبل أو بعد ذلك. فامتلاء سد النهضة خلال ثلاث سنوات لا يعني نهاية الأزمة، حيث سيبدأ سد مندايا، شقيق سد النهضة، في بدء ملء خزانه بمجرد الانتهاء من امتلاء خزان سد النهضة، ومن بعدهما سيبدأ ملء خزان الشقيق الثالث مابيلا، ثم رابعهم الشقيق كاردوبي. أي أن بحيرة ناصر لن تتسلم نقطة ماء واحدة من نهر النيل الأزرق حتى نهاية عام 2024. بينما سيظل النيل الأبيض ونهر عطبرة هما الشريانين اللذين قد يبقيا قلب مصر نابضا لبعض الوقت، ولكن بشرط نقل تدفقاتهما عبر أنانبيب معدنية لمدن الوجه البحري، وليس عبر المقاطع المفتوحة لمجرى النيل والترع.
الشهر الماضي صرح الدكتور بهي العيسوي، المستشار الجيولوجي السابق للسيسي، أمام مؤتمر للرجال الأعمال؛ بأن منسوب بحيرة ناصر قد هبط خلال عام 2016 لمنسوب 145، أي تحت منسوب التخزين الميت، أي أن جميع التوربينات كانت متوقفة تماما، ولولا فيضان آب/ أغسطس 2016 لتعرضت مصر للعطش بداية من آب/ أغسطس 2016.
وعلى الرغم من أن رب العالمين منحنا فرصة تاريخية خلال عام 2016 لنتدبر أمرنا، ونفكر في ما يجب علينا فعله لمنع تكرار وضع الشعب المصري في هذا المأزق الوجودي، مرة أخرى نجد السيسي وعساكره يبذرون ثروات البلاد على بناء فنادق للواءات الجيش ومنتجعات بجانب فنكوش العاصمة الإدارية وفنكوش الـ1.5 مليون فدان، متجاهلين تماما الأزمة القادمة شهر آب/ أغسطس 2017، واستحالة جريان ما تبقى من مياه بالمخزون الميت داخل مقاطع مفتوحة ولا بد من نقلها عبر عدة أنابيب معدنية بقطر متر على الأقل.
فهل يسعى السيسي وجيش خير جنود الأرض في إبادة أبناء الشعب المصري بمواجهتهم بالواقع، فجأة ورمي اللوم على أهل الشر كالعادة؟ فسياسة دفن الرأس في الرمال كالنعامة وتغيب الشعب عن مصيبة سد النهضة لن يحل الأزمة، بل يجعل الشعب المصري ضحية سهلة ومستعدة للذبح طواعية على مذبح الأحباش.
فمصر التي تسحب اليوم من المخزون الميت للسد العالي على أبواب "الشدة السيسياوية" والتي ستبدأ تدريجيا مع بداية ملء خزان سد النهضة في بداية شهر تموز/ يوليو 2017، حيث سينخفض منسوب بحيرة ناصر لمنسوب الجفاف تماما مثلما فعل سد "جيبي 3" الإثيوبي مع بحيرة توركانا بكينيا.
ضع هذا الوضع مع اقتصاد هش وجنيه غارق أمام الدولار، وفساد مالي وإداري منتشر في الدولة كسرطان النخاع، يضاف لهذه الخلطة الشيطانية لتمزق اجتماعي وسرقة علنية لموارد البلاد والعباد من قبل جيش خير جنود الأرض، ومع الأخذ في الاعتبار عدد السكان والأمراض المتفشية بينهم والفقر المدقع الذي يعيشون فيه. فمصر محتاجة لمعجزة إلهية قبل أن يهلك الحرث والنسل، وتتفكك روابط الدولة، وربما يعاد احتلال أجزاء منها من قبل جيرانها.
حفظ الله مصر من أي شر.