عصر الوثائق!!

منذ عدة أيام، صدرت وثيقة حركة المقاومة الإسلامية حماس وأثارت العديد من التساؤلات ووجهات النظر المختلفة والمتعارضة. وكأننا نعيش عصر الوثائق، أو موسم الوثائق.. فمن المتوقع أن تصدر وثيقة جديدة لقوى المعارضة المصرية خلال الأيام القادمة، حسبما أشارت العديد من الصحف والوسائل الإعلامية.

والوثيقة المتوقعة، كما يقال، تحمل عنوان "نداء وطن"، وتتناول 11 عنصرا كما تقول التسريبات عن معسكر المشاركين فيها. وهنا يجب لفت الانتباه إلى أنه كما أن هناك تسريبات من جانب معسكر الانقلاب، أصبحت هناك تسريبات من جانب معسكر المعارضة المصرية. وبعد أن كانت المعارضة وأدواتها الإعلامية تفرح وتهلل بالتسريبات الصادرة عن معسكر الانقلاب، وخصوصا بعد الانقلاب مباشرة (تسجيلات عباس كامل وهل كانت تسريبات مقصودة)، أصبح للمعارضة أيضا تسريبات يهلل لها إعلام الانقلاب.

وأثارت الوثيقة المتوقعة الكثير من اللغط والتراشق بالألفاظ بين أبناء المعسكر الواحد، حتى قبل أن تصدر. البعض ركز على أن الوثيقة أهملت وتنازلت عن الشرعية، وأنها لم تؤكد على ضرورة عودة الدكتور محمد مرسي حفظه الله رئيسا للجمهورية... البعض الآخر تناول قضية هوية مصر المنصوص عليها في الوثيقة، وهناك من اعترض على كيفية إدارة المرحلة الانتقالية.. وآخرون.. وآخرون.

لقد بدأ نشاط المعارضة المصرية بتحالف دعم الشرعية الذي تم تأسيسه في تموز/ يوليو 2013، والذي تم تأسيسه داخل مصر وخلال اعتصام رابعة بُعيد وقوع انقلاب الثالث من يوليو، وجمع عددا من الأحزاب والشخصيات السياسية التي تؤيد الشرعية وترفض الانقلاب العسكري وتطالب باستكمال أهداف 25 يناير. وكانت أدوات التحالف المعلن هي اعتصام رابعة والنهضة وتنظيم العديد من المسيرات والمظاهرات، وهي التي ما زالت مستمرة – مع تناقصها- حتى الآن مع تزايد قوى البطش التي تواجهها. بعد فض رابعة والنهضة، بدأت أفواج من المعارضين بالخروج من مصر، ولم يكن متاحا لها إلا بالتوجه إلى السودان أو إلى قطر أو إلى تركيا. ومع نهاية عام 2013 ازدادت أعداد المعارضين للنظام المصري في الخارج، وتنوعوا في أطيافا مختلفة، بين التوجه اللبرالي وحتى الإسلامي، وبدأت معارضة جديدة، وهي معارضة الندوات والمؤتمرات التي تعقد في الفنادق، وهذا ما كان يطلق على مقاومة منظمة التحرير في السبعينات والثمانينيات، وأثيرت في الفترة الأخيرة على حركة المقاومة الإسلامية. وكان من الضروري أن تبحث هذه المعارضة المصرية في الخارج وشخصياتها عن دور ونشاط، وكانت قناة الجزيرة مباشر مصر ما زالت تبث، فكانت تستضيف هذه الشخصيات، وبدأنا نسمع ونشاهد العديد من الأفكار حول معارضة الانقلاب.

في تشرين الثاني/ نوفمبر2013 تم تأسيس أول كيان خارج مصر، بهدف العمل على إيجاد مظلة وطنية عالمية للمصريين في الخارج، سواء المقيمين أصلا في الخارج أو الذين خرجوا بعد الانقلاب. وتم إطلاق اسم "الائتلاف العالمي للمصريين في الخارج"، وهذه المظلة كانت تستهدف عددا من الأهداف، وكان أهمها هو الدفاع عن مكتسبات ثورة 25 يناير، والعمل على استعادة الشرعية ودعم المسار الديمقراطي. لم تمض عدة أشهر - زاد خلالها أعداد الذين خرجوا من مصر نتيجة التضيقات والاضطهادات التي تعرضوا إليها هناك - وقبل أن نرى أي نشاط ملموس لهذا الاتئلاف، فيما عدا تنظيم مظاهره هنا أو هناك في مدن أوروبية مختلفة، صدرت وثيقة أخرى، وأطلق عليها وثيقة بروكسل، وكانت تهدف إلى نفس الأهداف تقريبا. ولكن بدأ الحديث عن إنشاء كيان جديد تحت مسمى الجمعية الوطنية أو التحالف الوطني، مع أن الكيان القائم لم يكن الحبر الذي كتبت به أهدافه قد جف بعد. وفي نفس الفترة صدرت ما أطلق عليها "وثيقة القاهرة" أو "بيان القاهرة"، في أيار/ مايو 2014 أيضا، وأكدت على نفس المعاني، وأهمها استرداد ثورة يناير والإرادة الشعبية للمصريين وأن المرحلة الانتقالية بعد سقوط الانقلاب ستكون بمشاركة الجميع وعلى أسس ديموقراطية، وأن الموقعين سيعلنون برنامجا زمنيا عن كيفية إدارة تلك المرحلة.

وكالعادة، لم يحدث شيء، وأثارت الوثيقة الكثير من اللغط والنقاش، ولكن لم تنتج برنامجا زمنيا أو أي شيء من هذا القبيل، بل وتناساها الجميع. وبعد أقل من ثلاثة شهور، تمت الدعوة مرة أخرى للقوى السياسية المعارضة، والذين خرجوا من مصر وزاد عددهم في الدول المستضيفة، وهي تركيا وقطر والسودان وماليزيا. واجتمع المدعوون في إسطنبول في آب/ أغسطس 2014، وتم تأسيس كيان اخر جديد، وهو ما أطلق عليه المجلس الثوري، وشارك فيه من يمثلون معظم القوى السياسية المعارضة بأطيافها المتنوعة. ويهدف الكيان الجديد إلى اصطفاف القوى المعارضة للانقلاب، وكذلك استعادة أهداف 25 يناير وحقوق الشعب وإرادته بإسقاط الانقلاب، كما استهدف الإعلان عن مشروع سياسي انتقالي متكامل، بالإضافة إلى رسم مسارات تفكيك مؤسسات الفساد وأركان الدولة العميقة. وذكر البيان التأسيسي أن المجلس سيؤسس مكاتب سياسية وإعلامية وقانونية وحقوقية، وغير ذلك، لتحقيق أهدافه. كما أن المجلس فتح باب العضوية للهيئات والقوى والأحزاب التي تعارض نظام الانقلاب، وكذلك كانت العضوية متاحة للأفراد الذين يؤيدون هذا المسار. بالفعل بدأ المجلس نشاطه بعدد من الزيارات الرسمية لعدد من حكومات الدول، لشرح القضية المصرية ومحاولة تعريف الحكومات الغربية بانتهاكات حقوق الإنسان وانقلاب العسكر على الرئيس الشرعي المنتخب في مصر، ثم قام بأنشطة شعبية في عدد من الدول.

عام 2015 في أغلبه صام الجميع عن إصدار الوثائق، وإن كان قد أثير كلام محدود عن إصدار ما يسمى بالميثاق الوطني، لكن الجميع كان مشغولا بمتابعة ما يحدث داخل صفوف جماعة الإخوان المسلمين، وكاننا لسنا في حاجة إلى قضية أخرى لشغل الناس. كما أنه حدثت استقالات عديدة من المجلس الثوري، وتمت إعادة تشكيل المكتب التنفيذي ومكاتبه المتخصصة. في عام 2016، وفي شباط/ فبراير، ظهر ما أطلق عليه وثيقة الجمعية الوطنية، ولكنها لم تلق بالا من أحد، وفي نهاية العام ظهر ما أطلق عليها وثيقة أو مبادرة أمريكا، في أيلول/ سبتمبر،وأثارت نقاشا حادا لأنها تناولت عدة جوانب أساسية، منها هوية الدولة والعلاقة بين الدين والدولة. واختفت كسابقاتها بعد أن هاجمها الجميع ورفضوها. في بداية عام 2017، ظهر ما أطلق عليه ميثاق الشرف الوطني، تبعته ما سميىت بـ"وثيقة يناير يُجمعنا" أو يَجمعنا. بعد ثلاثة شهور ظهرت أحدث وثيقة جديدة، (أو تسريباتها حتى الآن)، وهي ما يطلق عليها نداء وطن. هدف هذه الوثائق والكيانات التي تم إصدارها او تكوينها جميعها، كما تنص في بيانات التأسيس على أنها تستهدف استعادة أهداف 25 يناير. هذا الهدف نجده في تأسيس الائتلاف العالمي للمصريين في الخارج، وحتى وثيقة "نداء وطن"، مرورا بالمجلس الثوري وبروكسل، وغير ذلك. ونجد بعضها نص صراحة على ضرورة عودة الدكتور محمد مرسي، والبعض الآخر تجاهل هذا المطلب.

ونظرة على تطور نشاط المعارضة المصرية في الخارج بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، فإننا نجد أولا أنه بالرغم من أن كل الوثائق والمبادرات والبيانات والكيانات والمواثيق التي أعلنت وصدرت في هذا المضمار؛ كانت تنص في ديباجاتها على أنها تقوم من اجل اصطفاف القوي المعارضة للانقلاب العسكري على الشرعية وتسعى لتكون مظلة للجميع، إلا أننا مع كل إعلان عن وثيقة جديدة ومظلة أخرى نجد التراشق بالألفاظ بين المؤيدين والمعارضين لهذه الوثيقة أو ذلك الكيان، بشكل غير معقول ولا مقبول. بل يصل الحال في بعض الأحيان إلى التخوين والاتهام بالعمالة للمخالف في الرأي. فأي اصطفاف نسعى إليه وأي أهداف نعمل على تحقيقها؟ بالطبع يمكن أن نختلف في الرأي، بل هو مطلوب، ولكنه من المفترض أن يكون الجميع قد تربى على أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.

الجانب الآخر، أن كل الوثائق ادعت أنها تستهدف استعادة مكتسبات 25 يناير وكسر الانقلاب، بل البعض تحدث عن إدارة المرحلة الانتقالية بعد كسره، والبعض الآخر وعد بإعداد وإعلان مسارات لتفكيك الدولة العميقة. ولم تقدم وثيقة واحدة أو بيان أو مبادرة من التي تم إعلانها؛ أي تصور واضح عن كيفية تحقيق هذه المستهدفات، اللهم إلا إذا ذكرت عودات توفيق الحكيم التاريخية الروح (الشباب) والوعي، وما أطلق عليه أخيرا بالاصطفاف. ولكن من ومتى وكيف سيقوم الكيان أو الموقعون على الوثيقة بإسقاط الانقلاب؟ لا أحد يدرى.

لا أحد ينكر أن الوحدة مطلوبة، بل هي أمر رباني، كما في قوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" (الآية 103 سورة آل عمران)، كما أن الفرقة نحن منهيون عنها، وهذا من البديهيات؛ لان في الاتحاد قوه والتفرق مذموم لأنه ضعف، وهناك العديد من الأحاديث الشريفة لتؤكد هذا المعنى. ولكن الوحدة المطلوبة والمستحبة، كما في الآية الكريمة أو في الأحاديث الشريفة هي الوحدة على حبل الله ودين الله، وهو محدد ومعروف الآليات والأدوات، وقيمه الأساسية هي الحق والحرية والعدل. ولكن الوحدة والاصطفاف المطلوبة في هذه الوثائق هي اصطفاف على ماذا؟ الجميع يدعى أنه اصطفاف من أجل استعادة مكتسبات 25 يناير، ولكن هذا مطلب هلامي غير محدد الأدوات أو الوسائل!!! الجانب الثاني - كما ذكرت سابقا - هل من الممكن أن يصطف من استشهد له أخ أو ابن من جراء الانقلاب العسكري مع من خرج على مكتسبات 25 يناير، وكان يدعي أن تمثيلية 30 حزيران/ يونيو هي موجه ثورية ثانية، وهي التي وُظفت لحدوث الانقلاب؟ لا أعتقد. جانب آخر: هل يعتقد الإخوة الذين يثيرون الحديث كل فترة عن عدم المطالبة بعودة الرئيس مرسي-  فك الله اسره وجميع إخوانه - ويدعون إلى وثيقة جديدة ويسعون إلى ضم الإخوان إليها والمشاركة فيها، أنهم بهذا سوف يحققون عودة مكتسبات 25 يناير، ولو فرضا أنه سقط العسكر والانقلاب وتمت انتخابات حرة أخرى ونجح الرئيس مرسي من جديد، هل سوف نسمع عن موجة ثورية ثالثة؟!! الله أعلم.

ومما يصعب على الفهم ما نراه الآن من مهاترات بين فريقين نحسبهم جميعا مخلصين النية، والمفترض أنهم في نفس المعسكر ونفس الجانب من الانقلاب، فلماذا نتراشق بالألفاظ بهذا الشكل ونصل لهذا المستوى المتدني من الحوار؟ نختلف نعم.. نحمل آراء متعددة نعم.. يدعو كل منا لرأيه نعم.. لا يوجد أي غضاضة في القيام بذلك، ولكن السؤال الذي لا أجد له إجابة هو: ما الفائدة من أن نحول الاختلاف في الرأي إلى شحناء وضغائن في النفوس؟ لذلك أرجوا من الجميع أن يسموا على هذه الصغائر، وليركز كل فرد فيما هو مسؤول عنه؛ لأنه كلهم آتيه يوم القيامة فردا. حتى من يعتقد أنه يتعرض للهجوم بشكل شخصي، فأدعوه أن يحتسب ذلك عند الله، ولا يلتفت إلى ما يتلقاه من هجوم ويركز على ما يقوم به ويعمل لتحقيق الأهداف التي يقتنع بها. وهذا في رأي الضريبة التي يدفعها الكبير ومن يحمل الراية، المهم هو عدم التردد وعدم الالتفات إلى هذه المعارك الجانبية التي تستهدف تأخيره وإشغاله عن تحقيق هدفه. والكيانات الجادة هي الكيانات الكبيرة حتى لو كانت تستهدف أهداف محدودة ويراها الآخرون أهداف صغيره. ولنكن على يقين أن النجاح في العمل وتحقيق ما نصبو إليه يتوقف على درجة الإخلاص وسلامة الصدر.

كلمة أخيرة: لا يمكن أن ننهي النقاش حول موضوع موضة الوثائق وأسلوب المعارضة الخارجية؛ دون أن نحيي كل امرأة وكل رجل وكل شيخ وكل شاب خرج أو يخرج في مسيرة أو في مظاهرة في شوارع ومدن مصر المختلفة خلال السنوات الأربع الماضية، ونقف جميعا لهم احتراما. ذلك لأن ما يقوم به الإخوة والأخوات في مصر، مع ما يواجهونه من تنكيل وظلم، ومع ضعفه وتناقصه - في رأيي - أكثر قوة وتأثيرا مما تقوم به المعارضة في الخارج، وهذا لا يعني أنه ليس هناك دور لمن في الخارج، ولكن لا أحد يقوم به. فمعارضة المؤتمرات والندوات وإصدار الوثائق ليست هي أدوات المعارضة التي من المفترض أن يقوم بها معارضو الخارج. كما إنني أرجو أن يتوقف الجميع عن أن يهتموا ببعضهم البعض، ويختلفوا بشأن قضية عودة الشرعية أو غيرها، وإنما عليهم الاهتمام بتحقيق حرية هذا الشعب العظيم وإعادة امتلاكه لإرادته واختياره. وإذا كانوا لا يستطيعون، فعليهم الجلوس في بيوتهم، وعدم إشغال وإلهاء الآخرين، وإلا فإننا سنظل في انتظار الخلاف والتراشق حول المبادرة أو الوثيقة الثالثة بعد المئة الثانية، وتستهدف إعادة مكتسبات 25 يناير.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.