قضايا وآراء

"السُلفة السودانية" وما بعد تشغيل سد النهضة

محمد حافظ
1300x600
1300x600
في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر لعام 1959 وقعت دولتا مصر والسودان اتفاقية جديدة بينهما تمهيدا لبناء السد العالي، والذي بدأ تأسيسه عام 1961، حيث اتفق الطرفان حينذاك على الاستفادة المائية الناجمة عن بناء السد العالي، والذي تنقسم بحيرته بين البلدين لينال كل طرف منهما حصته من مياه النيل سنويا، بحيث يُسمح بتخزين 84 مليار متر مكعب سنويا في الحصالة الكبيرة المعروفة بسم بحيرة ناصر، وذلك من جميع روافد النيل الموحد أي النيل الأزرق+ النيل الأبيض+ عطبرة+ السوباط، والتي تعادل تدفقاتها السنوية (48 + 14+11+11) مليار متر مكعب.

وكانت الاتفاقية حينذاك تمثل انتصارا للبلدين على النيل، حيث زادت حصة الدولة المصرية لتصل إلى 55.5 مليار متر مكعب، بدلا من 48 مليار متر مكعب، وزادت حصة دولة السودان لتصل إلى 18.5 مليار متر مكعب، أي أن مجموع الحصتين تعادل (55.5 +18.5= 74) مليار متر مكعب، بينما تترك العشرة مليارات متر مكعب المتبقية من المخزون السنوي (84 مليار متر مكعب) للفواقد والتبخر من بحيرة ناصر.

وهذا الرقم 74 مليار متر مكعب، والذي يمثل مجموع حصة دولتي مصر والسودان في اتفاقية عام 1959، هو الرقم الذي اختارته إثيوبيا ليكون هو حجم بحيرة التخزين لسد النهضة، وهذا ما يراه البعض أن تحديده بـ74 مليار متر مكعب ليس أكثر من رسالة إثيوبية لدولتي مصر والسودان ردا على اتفاقية عام 1959، والتي أغضبت إثيوبيا ورفضت الاعتراف بها.

واليوم وبعد اقتراب اكتمال سد النهضة وبدء التشغيل في كانون الأول/ ديسمبر 2020، أيضا بعد قرابة 30 جولة مفاوضات مع إثيوبيا على مدار السنوات الخمس الماضية، وبعد توقيع اتفاقية مبادئ سد النهضة عام 2015 وعقد المكاتب الاستشارية في نهاية عام 2016، لا بد أن نتساءل عن مصير اتفاقية عام 1959.

فلولا بناء السد العالي بأسوان ما كانت اتفاقية عام 1959، فبناء السد وتغيير هيدرولوجية النيل أجبر الدولتين على الجلوس معا والاتفاق على أسلوب جديد يتماشى مع الهيدرولوجية الجديدة للنيل، ليبدأ تخزين قرابة 162 مليار متر مكعب ببحيرة ناصر على الحدود المصرية- السودانية، وتواجد هذا الكم الضخم من المياه والذي يعادل ضعف جميع التدفقات السنوية لروافد النيل.

ولهذا، ولدت تلك الاتفاقية التي تراعي ضعف قدرات دولة السودان في تخزين مياه الفيضان، وإلزامها بتمرير كامل الفيضان السنوي للنيل لبحيرة ناصر، ثم تحصل على حصتها بشكل تدريجي على مدار أشهر السنة.

وكما كانت هيدرولوجية تدفقات النيل هي السبب في ميلاد اتفاقية عام 1959 ستكون هي أيضا السبب في "موت" تلك الاتفاقية وفقدان معانها بعد استكمال سد النهضة عام 2020، حيث ستتغير هيدرولوجية النيل بشكل جذري نتيجة حجز سد النهضة لكامل فيضان النيل الأزرق، والذي يمثل قرابة 58 في المئة من إجمالي التدفقات التي تصب في بحيرة ناصر سنويا، ثم يبدأ التدفق البسيط بشكل يومي عبر فتحات التوربينات، حيث ينتظر أن تحجز إثيوبيا قرابة 17 مليار متر مكعب لتصل لمنسوب 595 بهدف توليد الكهرباء، ومن ثم تسمح بمرور قرابة التدفق المتبق من إجمالي التدفقات السنوية (أي 48-17= 31 مليار متر مكعب)، وذلك على مدار 365 يوما، بدلا من مرور نفس الكمية خلال أشهر الفيضان الثلاثة (تموز/ يوليو، آب/ أغسطس، أيلول/ سبتمبر).

مرور 31 مليار متر مكعب سنويا من فتحات التوربينات لا يعني أنها سوف تصب مباشرة في "حصالة بحيرة ناصر"، مثلما هو حادث اليوم ومنذ بناء السد العالي، بل يعني خروج أقل من 100 مليون متر مكعب يوميا في المتوسط من فتحات التوربينات لتجري في مجرى النيل الأزرق العميق، ولكن بسرعة منخفضة جدا وليس بنفس سرعات المياه أيام الفيضان.

وهذا هو التغيير الجذري في هيدرولوجيا النيل الأزرق، والذي سيساعد الكثير من المزارعين السودانيين والأجانب أصحاب الأراضي الزراعية الجديدة الواقعة بالقرب من سد النهضة للاستيلاء على معظم تلك المياه لري أراضيهم، بغرض زراعة تلك الأراضي (ثلاث دورات زراعية) بدلا من دورة واحدة.


أمر استفادة دولة السودان والمزارعين الخلجيين والصينيين الذين تملكوا ملايين الأفدنة على ضفاف النيل الأزرق ونهر عطبرة؛ هو أمر ليس بسر بل هو معلوم للجميع منذ بداية ظهور أزمة سد النهضة. ولقد تحدث عن خطورة هذا الأمر الدكتور محمد نصر علام، وزير الري السابق، محذرا من موقف دولة السودان بعد استكمال سد النهضة، وخاصة بعد تصريحات وزير الخارجية الأسبق إبراهيم الغندور العام الماضي بخصوص استيلاء الدولة المصرية على قرابة 350 مليار متر مكعب من حصة السودان، في ما يعرف باسم "السُلفة السودانية"، حيث تعودت دولة السودان على تفريغ خزنات سدودها في شهر أيار/ مايو من كل عام لتصب في بحيرة ناصر قرابة ستة مليارات متر مكعب، وذلك استعدادا لاستقبال تدفقات فيضان النيل الأزرق خلال فصل الصيف. ولقد تراكمت تلك السلفة منذ بدء تشغيل السد العالي لتصل اليوم لقرابة 350 مليار متر مكعب تطلب السودان اليوم من الدولة المصرية "سدادها".

ولهذا، فاستيلاء المزارعين "الخليجيين" الجدد على تدفقات النيل الأزرق بشكل يومي لري أراضيهم الجديدة وزراعة "البرسيم الحجازي" الشره لمياه الري؛ سوف يؤثر كثيرا على حجم التدفقات المتبقية المنتظر صبها في بحيرة ناصر.

وإن ما يقال اليوم عن وصول 31 مليار متر مكعب أو أكثر من المياه وفقا للتعهدات الإثيوبية؛ "يتجاهل" متعمدا فتح "الملف السوداني". ومصر تعلم علم اليقين أن دولة السودان الشقيقة سوف تسمح للمزارعين الجدد الاستيلاء على مياه النيل الأزرق كيفما يشاؤون وبمباركة غير مباشرة من الحكومة (الفيدرالية)، والتي ترى في ذلك "استعادة" للسلفة السودانية ذات الـ350 مليار متر مكعب.

وعليه، فالتصريحات المصرية بأن أي عجز ناتج عن بناء سد النهضة سوف تتقاسمه مصر مع السودان، وأن كلا من البلدين سوف يتحمل جزءا من هذا العجز؛ هو كذب وتضليل للمواطن المصري. فتغيير هيدرولوجية تدفقات النيل الأزرق بعد استكمال سد النهضة سيسقط اتفاقية عام 1959 من أساسها، وذلك لفقدان معناها، فليس هناك بعد عام 2019 أي فيضان للنيل الأزرق يصعب على دولة السودان حجزه وتتركه يصب مباشرة في بحيرة ناصر، بل ستكون تدفقات بسيطة تجري بسرعة بطيئة أمام أعين مزارعين (خليجيين) "متعطشين" لتلك اللحظة للاستفادة من أراضيهم المستصلحة لأقصى درجة ممكنة من خلال تنوع المحاصيل مع وفرة المياه.

وعليه، فالعجز في حصة مصر السنوية لن يكون فقط هو ما تم حجزه أمام سد النهضة خلال فصل الفيضان، بل ستضاف إليه الفواقد في الفوالق الجيولوجية وحرمان مصر من الستة مليارات متر مكعب سنويا والمعروفة بالسلفة السودانية. ثم يضاف إليه ما سيتم الاستيلاء عليه من قبل المزارعين الجدد في شرق السودان، والذي يُقدر بقرابة 50 في المئة من التدفقات الخارجة من فتحات توربينات سد النهضة.

وعليه، فليس من المنتظر أن تذكر هذه الأمور بشكل واضح في اتفاقية ترامب يوم 28 كانون الثاني/ يناير، والتي سيتم توقيعها من قبل الدول الثلاث تحت إشراف من البنك الدولي. والسبب ببساطة هو اهتمام الجانب المصري بتحقيق "انتصار" شكلي على الجانب الإثيوبي لإرضاء الشعب المصري من جانب، ومن جانب آخر تحقيق رغبة الرئيس ترامب في الظهور بمظهر الرجل القوي القادر على "حل المشاكل الدولية الصعبة"، وأخذ صورة له وهو يفتتح "سد النهضة" مع رئيس وزراء إثيوبيا في تموز/ يوليو القادم.

وإن أي عمل "تخريبي" من قبل أي دولة من الدول الثلاث يمنع تحقيق "حلم ترامب" سيكون عقوبته هو الحرمان من المساعدات الأمريكية. فترامب قد قرر أخذ صورة بجوار سد النهضة وعلى مصر وإثيوبيا العمل سويا لتحقيق حلم ترامب "سيد أسياد الأرض".

ومن أجل تحقيق هذا الحلم تسلمت إثيوبيا قبل أيام مضت قرابة تسعة مليار دولار أمريكي كمنح فنية وقروض من الولايات المتحدة والبنك الدولي والسعودية والإمارات، ومن المنتظر أن تتسلم باقي "حزمة المساعدات" لتصل لقرابة 20 مليار دولار قبل حفل افتتاح سد النهضة، بينما ستحصل مصر على "حزمة مساعدات" أقل مما حصلت عليه إثيوبيا، مقابل الموافقة على موقف إثيوبيا الجديد، والتوقف عن الدفاع عن الحصة المصرية لعام 1959، واعتبارها ماضيا سقط بكتاب التاريخ والنظر للمستقبل والطريق الجديد إلى عنتيبي.
التعليقات (2)
عمر محمد الحسن
السبت، 26-12-2020 07:50 م
اني مواطن سوداني وارى ان مصر ظلمت السودان في عدة ملفات منها السد العالي و عدم دفع تعويض كافي لمدينة وادي حلفا و يضا السلفة السودانية لمصر من حصة السودان في النيل و اخذ حلايب غدرا و اقتدارا من السودان اثاء خوضه حرب ضروس مع دولة جنوب السودان و عدم توقعه الطعنة مصر الجارة الشمالية . اتمنا من الحكومة السودانية الجديدة تصفية الحسابات مع مصر في كل تلك الملفات و التي قد تكون غير ظاهرة لنا كشعب سوداني.
عبدالله محمد علي
الأحد، 26-01-2020 05:38 م
الأرقام المكتوبة لا ترقي إلى الصحة والحديث عن هذه السلفة صحيح وهي أكبر من الرقم المذكور والاتفاقية المذكورة ا جحفت في حق السودان لكن السودان يراعي ان مصر والسودان بينهم علاقات قديمة ومصر كانت تقود الأمة العربية في قضاياها أصبحت مصر الآن تبحث عن مصالحها فقط بعيدا عن القضايا المشتركة التي كانت تتبناها بل أصبحت لا تبالي في الاستحواذ علي أراضي الجيران ك حلايب السودانية ولذلك قل التعاطف مع القضايا التي تهم مصر في السودان في أنه كانت هناك أحزاب السودان قامت للوحدة مع مصر وخدمة قضاياها وكانت تهتم بقضايا مصر أكثر من السودان وتغير الوضع الآن والكل مشغول بقضايا بلده وهذا كله بإهمال من مصر التي فقدت القيادة