تغيّر المشهد السياسي في
تونس، في الآونة الأخيرة، مع ولادة تحالفات وأحزاب جديدة، منحت انطباعا لدى خبراء بأن الخارطة السياسية بدأت تأخذ منحى مغايرا تماما، وتنبئ بتوجيه البوصلة نحو سباق مبكّر لخوض الانتخابات الرئاسية المقررة في 2019.
فمطلع الشهر الجاري شهد ولادة جبهة سياسية معارضة، تحت اسم "جبهة الإنقاذ والتقدّم"، هدفها تحقيق التوازن المفقود في المشهد السياسي، والحد من "هيمنة حركة
النهضة (ذات توجه ديمقراطي إسلامي)"، وفق المؤسسين.
هذه الجبهة تضم عشرة مكونات هي: الهيئة التأسيسية لحركة نداء تونس (قطاع على خلاف مع المدير التنفيذي للحركة حافظ قائد
السبسي نجل الرئيس الباجي قائد السبسي)، وحركة مشروع تونس (20 نائبا في البرلمان من مجموع 217)، والاتحاد الوطني الحر (11 نائبا)، وحزب العمل الوطني الديمقراطي، وحركة تونس المستقبل، والحزب الاشتراكي، وحزب الثوابت، وحركة الشباب التونسي، وحزب الوحدة الشعبية، والحركة الوسطية الديمقراطية.
وعرف أواخر آذار/ مارس الماضي إعلان رئيس الحكومة الأسبق، مهدي جمعة، تأسيس حزب جديد تحت اسم "البديل التونسي".
واعتبر الرئيس المؤسس للحزب أن "تونس تعيش وضعية صعبة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، وأن "المشهد يتّسم بالضبابية وغياب رؤية واضحة".
أزمة نداء تونس
بموازاة ذلك، تتواصل، منذ خريف 2015، أزمة حركة حزب نداء تونس، الفائز في الانتخابات التشريعية الماضية 2014؛ ما أدّى إلى انشقاق 28 من نوابه في البرلمان، معلنين، بقيادة أمينه العام السابق، محسن مرزوق، في آذار/ مارس الماضي، عن ولادة حزب جديد، تحت اسم "حركة مشروع تونس".
وهو انشقاق تسبب في تراجع عدد نواب "نداء تونس" إلى 59، قبل أن يعود إليه بعض المنشقين، ليبلغ عدد نوابه حاليا 67 من أصل 217، ويتراجع إلى المركز الثاني، خلف حزب "النهضة"، صاحب الـ69 نائبا.
هذا الحراك يضاف إليه تصريح الرئيس السابق، منصف
المرزوقي (2011-2014)، لصحيفة "ميترو" الفرنسية، نهاية آذار/ مارس الماضي، بأنه يطمح للعودة إلى قصر قرطاج (مقر الرئاسة) لـ"إتمام المهمة"، وفق تعبيره.
وقبل أيام، حددت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر المقبل موعدا لإجراء الانتخابات البلدية، التي قد تمثل، بحسب مراقبين، حلبة استعراض للقوة بين الأحزاب والتحالفات السياسية الجديدة والقديمة تمهيدا لخوض معركة الرئاسيات.
تياران فقط
وفق أستاذ القانون الدولي بالجامعة التونسية عبد المجيد العبدلي، فإن "تونس أصبحت تتميز بتخمة حزبية، إذ يوجد بها اليوم أكثر من مائتي حزب، ولكن السياسة والأحزاب لم تعد تشغلان المواطن، فاهتماماته منصبّة على تحسين وضعه المادي ومقدرته الشّرائية ووضعه الاقتصادي والأمني".
واعتبر العبدلّي أن "هذه العوامل ستجعل نسبة المشاركة في الانتخابات المحليّة (البلدية) ضئيلة لن تتجاوز 15 أو 20%؛ ما سيؤثر سلبا على (الانتخابات) التشريعية والرئاسية (في 2019)، ما لم توجد حلول لتلك المشاكل".
واعتبر أن "التّغيرات التي تميز المشهد السياسي اليوم ليست سوى ردات فعل لأحزاب وتحالفات لا يجمع بينها سوى كونها ترى السلطة غنيمة، حتى إن برامجها لا تتجاوز مجرد الوعود الضبابية التي لا تترجم على أرض الواقع".
ورأى أنّ "المشهد منقسم بين تيّارين أساسيين، ليبيرالي وإسلامي، وكل طرف لديه ردّات فعل مضادة تجاه الطّرف المقابل، وضمن هذه الدّائرة تنحصر برامجُ كل تيّار بعيدا عن مطالب الشعب".
ومضى العبدلي قائلا إن "60% من التونسيين شباب، ولكن من يحكموننا اليوم، ومن بيدهم سلطة القرار، شيوخ كبار في السنّ، وهو ما جعل البلد يعاني فراغا سياسيا ومؤسساتيا، حتّى إنّ المعارضة مثلا لم تفرض شخصا كبديل يتم الإجماع حوله.. شخصية جديدة تقدم الإضافة للساحة السياسية".
السبسي والمرزوقي
استطلاع رأي أجرته مؤسسة "أمرود" (مركز إحصاء خاص)، في آذار/ مارس الماضي، أظهر أن 54% من المستجوبين (وعددهم ألف شخص) لا يعتزمون المشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة، فيما قال 28% إنهم سيشاركون.
نتائج الاستطلاع أبرزت كذلِك أنّ 34.4% راضون عن أداء الرئيس السبسي، فيما بلغت نسبة الرضا عن أداء رئيس الحكومة، يوسف الشّاهد، 39.1%.
ووفق الاستطلاع فإنّ شخصيتي الرئيس الحالي السبسي والسابق المرزوقي بقيتا في صدارة ترتيب أكثر الشخصيات التي يراها المستجوبون قادرة اليوم على قيادة تونس، بواقع 17.1 للأوّل و11.2 للثاني.
لكن العبدلي اعتبر أنه "من الأفضل ترشيح شخصيات جديدة ساهمت في الثورة (التي أطاحت بالرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي 1987- 2011) يجمع الكل على كفاءتها وله كاريزما وسنه يقبل بتحمل المسؤولية، بعيدا عن استهلاك الماضي، ومن كان من أزلام النّظام السّابق".
وتصاعدت مؤخرا تصريحات تدعو إلى إعادة ترشيح السبسي لانتخابات 2019، بينها ما صرّح به قبل أيام وزير التربية، ناجي جلول، قائلا: "أساند ترشح السبسي لولاية جديدة".
تقويض السياسة
بحسب الخبير السياسي التونسي، فريد العليبي، فإن "الانفجار الحزبي في تونس يعود في جانب منه إلى استراتيجية تقويض السياسة وتنفير الشعب منها، خاصة أن العديد من الأحزاب مستنسخة عن بعضها البعض، فالدستوريون لهم عشرات الأحزاب التي تتبنى الفكر نفسه، والإسلاميون واليساريون كذلك".
العليبي مضى قائلا إن "اليمين الديني (يقصد حركة النهضة المشاركة في الائتلاف الحكومي) له السيطرة نفسها على الحكم بشكل شبه كامل، وقد يغير تحالفاته لينفصل عن نداء تونس مكرها، وقدم لفائدته تنازلات كبيرة، ولكنه سيتراجع في الوقت المناسب إذا ما اشتعلت أمامه الأضواء، سواء في باريس أم واشنطن، أم حتى في عواصم عربية وإقليمية معنية بالشأن التونسي".
واعتبر أن "الانفجار الحزبي يتجاوز السباق الرئاسي وغيره من السباقات، فهو يتعلق بالنظام السياسي المراد تركيزه في تونس، ومن ملامحه الأساسية جعل السياسة نشاطا يحتكره أباطرة المال والإعلام، وتحركه من وراء الستار قوى إقليمية ودولية".
ورأى أن "الجبهات التي تتشكل الآن بوتيرة متصاعدة تعكس رغبة أصحابها في توفير أسباب النجاح في المواعيد الانتخابية القادمة".
وختم الخبير السياسي التونسي بقوله: "إذا أخذنا في الاعتبار تأثير العامل الخارجي فإن من المرجح مواصلة ما سمي بالتوافق بين النهضة والنداء، مع تسجيل النهضة لمكاسب جديدة، ضمن
التحالف بين الحزبين، فالنهضة تعلم أنه في ظل المناخ الدولي والعربي السائد لا يمكنها السيطرة على السلطة بشكل كامل، لذلك ستعمل فقط على قضم حذر للمزيد من المواقع".
ومع الحراك السياسي التونسي الراهن، يبقى المشهد مفتوحا على احتمالات عديدة، مع اقتراب الانتخابات البلدية، التي من شأنها أن تكون اختبارا للسياسيين قبل دخول غمار الانتخابات الرئاسية في 2019.