تعتمد الإدارات الأمريكية المختلفة في تدبير سياستها الخارجية على نهج يقوم على فلسفة "براغماتية" تستند إلى تحقيق مفهوم "المصلحة القومية"، وعلى الرغم من اللغط والجدال حول الفروقات بين إدارة
أوباما وخلفه
ترامب، إلا أن كليهما ينتمي إلى الفلسفة البراغماتية الأمريكية ذاتها بوجوهها المتعددة؛ الإمبراطورية والإمبريالية والحقوقية.
إلا أن البراغماتية بطبيعتها الاختلافية الملتبسة -مثل فلسفة ذرائعية تعتمد في قيمها على قدرتها على التحقق- تتوافر على قراءات عديدة، ففي الوقت الذي تبنى أوباما براغماتية تستند إلى "الغموض الخلاق"، فضل ترامب براغماتية تستند إلى "الوضوح الفج".
تختلف سياسة ترامب عن سلفه أوباما في "سياسات الحقيقة"؛ نظرا لاختلاف الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، حيث يقدم ترامب خطابا شعبويا أحاديا شديد الوضوح، في حين كان أوباما يقدم خطابا نخبويا تعدديا شديد الالتباس.
لكن، حقيقة الأمر أن ترامب يسير على خطى أوباما عمليا، ويتنكر له خطابيا لاختلاف تصوراتهما حول مسألة "عظمة أمريكا"، لكن مضمون الخطاب والممارسة لا يخرج عن سياق الفلسفة البراغماتية بصيغها المحتملة.
منذ تولي ترامب مقاليد الإدارة الأمريكية، سار على خطى سلفه أوباما عمليا في المسائل السياسة الخارجية الأساسية كافة، لكنه خالفه خطابيا وإعلاميا، وفق منظورات سياسة الالتباس والوضوح، إذ لم تكن مسألة إزاحة
الأسد أولوية لأوباما، لكنه استخدم خطابا ملتبسا، حيث اقتصرت خطاباته على مطالبة الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي عن السلطة في آب/ أغسطس 2011.
وطالبت إدارة أوباما عقب انطلاق الثورة السورية، النظام، بإجراء إصلاحات تلبي مطالب المحتجين والدعوة إلى وقف العنف، ثم مارست ضغوطات محدودة على النظام السوري، تمثلت بفرض حزمة من العقوبات المالية والاقتصادية في 18 أيار/ مايو 2011، شملت الرئيس بشار الأسد، وعددا من المسؤولين السياسيين والأمنيين.
وعلى الرغم من أن أوباما اعتبر في مقابلة تلفزيونية مع شبكة "سي بي إس" في 12 تموز/ يوليو 2011، أنّ بشار الأسد "فقد شرعيته لعجزه عن إنجاز التحول الديمقراطي"، فإنّه لم يدعه إلى التنحي عن الحكم، وبلغت تصريحاته أوجها 18 آب/ أغسطس 2011، لكنه سرعان ما تخلى عنها.
عندما توصلت مجموعة العمل حول
سوريا في 30 حزيران/ يونيو 2012 إلى اتفاق جنيف، الذي يتألف من ست نقاط لحل الأزمة السوريّة حافظت إدارة أوباما على غموضها الخلاق حول مستقبل الرئيس الأسد في المرحلة الانتقالية، وتركته نهبا للتفسيرات، حيث أصرت روسيا حينها على أنّ الاتفاق لا يشير إلى رحيل الأسد نقطة انطلاق للتنفيذ.
وكان الرئيس أوباما أكثر وضوحا في خطاب "حال الاتحاد" في 12 شباط/ فبراير 2013، إذ لم يتطرق إلى مسألة إزاحة الأسد، واكتفى بالقول إنّه "سيواصل ضغوطه على النظام السوري، وسيدعم قادة المعارضة".
هكذا، لم يكن موقف إدارة ترامب مفاجئا حول مسألة رحيل الأسد، فقد كان استمرارا لسياسة أوباما بعد تخليصها من الغموض الخلاق، لتدخل في سياق الوضوح الفج، فعندما صرحت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة "نيكي هيلي" في 30 آذار/ مارس 2017، بقولها إن "سياسة بلادها في سوريا لم تعد تركز على إزاحة الرئيس بشار الأسد"، كانت تزيح الستار عن سحب الغموض الأوبامي.
لكنها أكدت على جوهر السياسات بعبارات مشابهة، حين أضافت بأن "أولويتنا هي كيفية إنجاز الأمور، ومن نحتاج للعمل معه، لإحداث تغيير حقيقي للناس في سوريا، ولا يمكننا بالضرورة التركيز على الأسد بالطريقة التي فعلتها الإدارة السابقة".
وكان وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، قال بدوره، إن مصير الأسد سيحدده الشعب السوري على المدى الطويل، وفي سبيل سياسة الوضوح والفجاجة، قال المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر، إن هناك حقيقة سياسية واقعية علينا تقبلها بخصوص حكم رئيس النظام السوري بشار الأسد.
وشدد على أن بلاده بحاجة الآن إلى التركيز على هزيمة تنظيم الدولة، و"هناك أولويات راسخة في سوريا والعراق، وقد أوضحنا أن مكافحة الإرهاب، وخصوصا هزيمة التنظيم، هي على رأس أولوياتنا".
إن التركيز على أن أولوية أمريكا هي القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، التي ترددها إدارة ترامب، هي ذاتها التي قررتها إدارة أوباما، كما أن مسؤولي إدارة ترامب يتبنون إستراتيجية الرئيس السابق باراك أوباما، في الحد من توسع عمل القوات الأمريكية في الخارج، ويعتمدون على الخطط الاستراتيجية ذاتها، التي وضعت في عهد أوباما المتعلقة باستعادة الموصل العراقية والرقة السورية بالاعتماد على الضربات الجوية، ومساندة المستشارين الأمريكيين على الأرض، وإنشاء القواعد العسكرية، والاعتماد على القوى المحلية العراقية على اختلاف مكوناتها.
وفي الرقة أيضا، بالاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية واستبعاد تركيا كل ذلك في سياق من الوضوح بعيدا عن الغموض.
بدا واضحا أن الخلاف بين أوباما وترامب يدور حول النهج البراغماتي وحدوده بين الالتباس والغموض والوضوح والفجاجة، ومدى الفائدة وأثرها على المصالح الأمريكية.
ففي سياق الجدل حول "الإرهاب"، لا يختلف أوباما عن ترامب في ربطه بـ"الإسلام"، لكن الخلاف حول جدوى الاستخدام الفج لمصطلح "الإرهاب الإسلامي".
وكان أوباما شن هجوما غاضبا ضد الجمهوريين عموما، خصوصا دونالد ترامب، محذرا من أن الحديث المرسل والفضفاض عن المسلمين أضرّ بحملة الولايات المتحدة ضد الجماعات المسلحة في الشرق الأوسط، وأي مكان آخر.
وقال: "يقولون إن هذا هو الحل، لا يمكننا الانتصار على داعش إلا لو أطلقنا عليهم الإسلاميين المتطرفين.. ما الذي سننجزه باستخدام هذا الوصف؟ ما الذي سيغيره؟ هل سيقلل من محاولات داعش قتل الأمريكيين؟ هل سيضيف حلفاء أكثر؟ هل هناك استراتيجية عسكرية تعتمد على ذلك؟ هذا إلهاء سياسي".
وأضاف أن "عبارة الإسلام الراديكالي ليست سحرية".
ولا يؤمن ترامب بالغموض، وهو واضح في خطاباته، لكنه لا يخرج فعليا عما خطه أوباما، وهو ما أكسبه شعبية لدى الدكتاتوريات المحلية، التي رحبت بفجاجته، خصوصا الرئيس الأسد الذي رحب بانتخابه وأعرب عن استعداده للتعاون مع إدارته، وذلك عقب الاستمتاع بمناظراته الفجة حول الإسلام والإرهاب.
فقد حدد ترامب أولوياته بشأن الشرق الأوسط، ووضع على رأسها مكافحة الإرهاب، إذ قال في المناظرة الثانية مع منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، إن الرئيس السوري بشار الأسد "رجل سيئ"، لكنه يجيد "قتل الإرهابيين".
وقدم ترامب موقفه من سوريا بصورة أكثر تفصيلا في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" البريطانية، إذ شدد على ضرورة تركيز اهتمام واشنطن على معالجة القضايا الداخلية بدلا من "بناء دول" في الخارج.
وفي مقابلة صحفية مع وكالة "رويترز"، شدد ترامب على أن هزيمة تنظيم "داعش" تحظى بالأولوية على إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي.
وأبدى ترامب شكوكا حول طبيعة المعارضة السورية المسلحة التي تدعمها واشنطن، وحذّر من أن ممثلي تلك المعارضة قد يكونوا موالين لـ"داعش".
رغم البراغماتية الفجة لترامب، إلا أنه لا يختلف عن البراغماتية الأنيقة لأوباما، ففي مجال توسيع المدارك الإرهابوية كانت إدارة أوباما من اقترحت وضع جماعة الإخوان المسلمين على لوائح الإرهاب.
ورغم أن بعض مستشاري ترامب تحدثوا عن إمكانية تصنيف "الإخوان المسلمين" جماعة إرهابية، إلا أن ترامب يتبع خطى أوباما، وهو يقوم بحسابات كلفة وجدوى التصنيف.
عمليا، لا نجد أي استراتيجية جديدة لترامب في التعامل مع القضايا الخارجية، وهو يتبع ما وضعه سلفه أوباما، فبعد مرور أشهر عدة من تولي ترامب لمنصبه، لم يبد المسؤولون في إدارة ترامب علامات ومؤشرات كبيرة على رغبتهم في التراجع عن استراتيجية أوباما للتدريب والتجهيز، ودعم الجيوش المحلية وقوات الأمن لخوض حروبهم، بدلا من الاضطرار إلى نشر قوات أمريكية كبيرة في المناطق الساخنة بالصراعات.
وصرح وزير الدفاع الأمريكي السابق، آشتون كارتر، في منتدى في جامعة هارفارد، بأن "الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يسير على الخطط التي وضعتها الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة باراك أوباما فيما يتصل بمحاربة داعش في العراق، خصوصا معركة تحرير الموصل".
لا تختلف مواقف ترامب عن سلفه أوباما بشأن إيران عمليا، رغم الاختلاف في التصريحات بين الأنيقة والفجة، حيث خلقت الخطابات الترامبية الفجة بشأن إيران انطباعات خاطئة بأن الولايات المتحدة ستتبنى موقفا أكثر عدوانية تجاه إيران من موقف أوباما، لكن السياسة الأمريكية تجاه إيران التي بدأت تتبلور في ظل إدارة ترامب تبدو مماثلة تماما لأوباما، وللتقليد الأمريكي.
ذلك أن سياسة إدارة أوباما تجاه إيران تعكس وجهات نظر فريق الأمن القومي الذي لا يختلف كثيرا عن الفريق الموجود لدى إدارة ترامب، من حيث العقلية المتشددة.
خلاصة القول، إن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم على فلسفة براغماتية تضمن تحقيق مصالحها القومية، والبراغماتية بطبيعتها تحتمل أوجها متعددة الاختلاف بين الغموض والالتباس والوضوح والفجاجة، لكنها تعبر عن اجتهادات لا تخرج عن الأطر الاستراتيجية التي تقوم على التصورات الإمبراطورية والنزعات الإمبريالية.
وإذا كانت مسألة رحيل الأسد بدت واضحة بين أوباما وترامب، فهي أشد وضوحا في موضوعة "الإرهاب الإسلامي"، ولن نظفر بفروقات جوهرية في سائر قضايا المنطقة، في تلك المتعلقة بإيران أو حتى القضية الفلسطينية، لكن الأشد وضوحا هي مسألة دعم الدكتاتوريات، وأوهام صناعة الاستقرار.