حتى الآن يمكن القول إن أمريكا في عهد دونالد
ترامب لم تحدّد استراتيجية دولية ذات أولوية، أو أكثر من أولوية واحدة، تُخضع لها مختلف السياسات والممارسات التكتيكية، ومن ثم تجعلها تعمل في خدمتها.
صحيح أن إدارة ترامب، وترامب نفسه، ركزا على عداء صارم ضدّ كل من الصين وإيران. وقد نال العداء ضدّ إيران النصيب الأوفر من التصريحات المُعلَنة. ولكن مع ذلك لم تتحدّد للاستراتيجية الدولية الأمريكية أولوية ثابتة لسنوات، كما هو الشرط لكل استراتيجية لدولة إمبريالية أو عظمى.
المناخ العام لتصريحات ترامب ومعاونيه أو للسياسات الأمريكية عموماً، ما زال في حدود المواقف المتفرقة ("الكلام"). ولم ينزل بعد إلى التطبيق العملي. ومن ثم فهو قابل للتغيير. بل هو متقلب نسبياً حتى في إطار المواقف والتصريحات المُعلَنة.
ولهذا، من المبكر التحدث عن استراتيجية أمريكية، أو سياسات أمريكية تحملان درجة من الثبات والاستمرارية، عدا التأكّد من العدائية التي وُجهت حتى الآن لكل من إيران والصين.
على أن ما يستحق التوقف عنده مما تكشّف من سياسات أمريكية، فيتعلق بالموقف من
القضية الفلسطينية، والعلاقة بين ترامب ونتنياهو. وذلك بعد اللقاء الرسمي بينهما.
بالطبع، هذا التوقف يجب أن يكون حذراً، وغير متعجل، لأن ما كُشِف عنه في ذلك اللقاء يدخل في الإيجاز والعموميات. وهو شبيه بما يقال عادة عن الجزء الظاهر من جبل الثلج الغارق في المحيط. فاللقاء دام أربع ساعات، وما صدر من تصريحات لم يتجاوز الدقائق. ولكن بالرغم من ذلك ثمة مؤشرات أولى ذات أبعاد يجب أن تُقرأ وتُحلل.
توقع البعض أن يسارع ترامب في اتخاذ قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كما وعد، في أثناء حملته الانتخابية، بما يشبه حَلْفَ الأيْمان المُغلظة. ولكنه الآن راح يتأنى وينظر في الأمر. وقد عبّر عن ذلك بالقول: "أرغب في الأمر، إنما ننظر فيه". وهذا يدل على أن "عنترياته" ليست بالضرورة ذاهبة إلى الممارسة، بلا تردّد وحساب. ولكن، في الوقت نفسه، يجب أن يُحسَبَ استعدادَه للمغامرة وسوء التقدير عند اتخاذ القرار. ومن ثم لا يُعامَل باعتباره عاقلاً أو براغماتياً ونقطة على السطر. فهو الإثنان في آن: المغامر، وربما الأحمق من جهة، والبراغماتي، وربما العاقل من جهة ثانية. فقرار نقل السفارة في أولى غزواته كان سيكسر "عصاته" (عصاه). لأن الشعب الفلسطيني كان متهيئاً للانفجار في وجهه، ولطار التنسيق الأمني، ولأصبح الاحتلال والاستيطان على كف عفريت، أمام جماهير توحّدت ونزلت إلى الشوارع، وأمام شباب وشابات يستشهدون وهم يقاومون بأبسط الوسائل البدائية منذ سبعة عشر شهراً.
في لقاء ترامب مع
نتنياهو صرح ترامب أنه ينظر إلى الدولتين أو الدولة الواحدة. ويعجبه ما يعجب الطرفين (يقصد الصهيوني والفلسطيني). وقد ترك الطرفين أن يُقررا شكل التسوية بينهما كما السلام. ووعد أن "يبرم اتفاق سلام كبير جداً".
إلى هنا يكون ترامب قد تجاوز من سبقه من رؤساء ثلاثة: كلينتون وبوش الإبن وأوباما بما أسموه "حلّ الدولتين" (التصفوي طبعاً). وترك الباب مفتوحاً لحلّ الدولتين أو حلّ دولة واحدة أو أيّ حلّ. بل ترك الباب مفتوحاً على لا حلّ إلاّ الحلّ الذي "يعجب" الطرفين. وبهذا، يكون قد خرج من الالتزام بحلّ الدولتين أو أي حلّ آخر. وأعلن أن موقفه هو ما يتفق عليه الطرفان، أي المفاوضات بلا سقف، وهو الموقف الذي يريده نتنياهو. وهو الموقف الذي طبّقه الرؤساء الثلاثة الذين أَسقطوا كل قرارات الأمم المتحدة التي سبق ووافقت عليها الولايات المتحدة، عدا تركهم سقفاً "مشققاً" هو حلّ الدولتين، وفقاً لما يتفق عليه الطرفان في المفاوضات.
ولهذا، لا يظنن أحد أن ترامب أسوأ من أوباما أو بوش الابن أو كلينتون حتى في ما يتعلق بموضوع "حلّ الدولتين". فالمشترك الأساسي بينهم هو التخلي عن كل المرجعيات التي وُضعت لمسيرة التسوية مثل قرارات هيئة الأمم المتحدة، رغم سوئها، وجعلوا المرجعية الوحيدة هي اتفاق الطرفين من خلال المفاوضات. أما ما تركوه من سقف اسمه "حلّ الدولتين" فترامب أبقاه إلى جانب غيره ليتفق عليه الطرفان. وهذا ما فعلوه حين جعلوا المفاوضات هي التي تحدّد كل شيء. ومن ثم يكون إبقاءهم لسقف الدولتين وحده هلامياً وشكلياً ما دامت المفاوضات هي المقرّر.
بيد أن ثمة نقطة ألمح لها ترامب تبدو جديدة (بل قديمة) وهي محاولة إشراك الدول العربية (يقصد مصر والسعودية والأردن) في محادثات السلام. ولعل ترامب هنا يريد إحياء نهج مؤتمر مدريد الذي أطلقه بوش الأب وبيكر، وقضى عليه اتفاق أوسلو. طبعاً الدور العربي الإقليمي هنا لا يكون طبق الأصل عن نهج مدريد، وما أطلق من مسارات تفاوضية. ولكن ما يشبهه.
لقد أُعلِن أن إدارة ترامب تدرس عقد قمة عربية في واشنطن لهذا الغرض. الأمر الذي يعني أن ترامب قد لا يترك الأمر لما يعجب الطرفين فقط.
وهنا ثمة مشكلة على ترامب أن يحلها مع نتنياهو الذي لم يكشف أوراقه وهو ما فعله أسلافه منذ بن غوريون إلى اليوم. فقادة الكيان الصهيوني لم يعترفوا بأي قرار صدر عن هيئة الأمم المتحدة بما في ذلك قرار التقسيم 181 الذي استندوا إليه في إعلان "دولتهم". ولم يقولوا ما هو الحل الذي يقبلون به. فقد كان نهجهم دائماً أن يُطلَب من الفلسطينيين والعرب والدول الأخرى الموافقة على القرارات وتقديم الحلول لما تحمله من تنازلات بإعطاء حقوق للكيان الصهيوني الذي لا حقّ له مطلقاً في فلسطين. ثم يطالب بالمزيد حتى وصل الأمر إلى جعل المفاوضات الثنائية المباشرة هي التي تقرّر مصير فلسطين. أي أصبح من لا يملك أيّ حق في فلسطين طرفاً أصيلاً له الحق في تقرير مصير فلسطين. وذلك على أن تكون كل فلسطين له وتهجير أهلها منها. وهؤلاء إذا كانوا يريدون دولة فعندهم شرق الأردن، وعندهم سيناء.
ولهذا، سيواجه نتنياهو مشكلة مع ترامب إذا قال له حدّد الحلّ الذي تريده حتى أتبناه؟ هنا ستقع الطامة على رأس نتنياهو وعلى رأس ترامب. لأن كشف الأوراق بمعنى تحديد ما يقبل به الكيان الصهيوني سيُدخِل كل من وافق على قرار دولي أو حلٍ ما للقضية الفلسطينية، من فلسطينيين (جماعة التسوية) ومن عرب (معاهدات مع الكيان والتطبيع) ودول كبرى ووسطى وصغرى وهيئة أمم، أمام ورطة قاتلة من الناحية السياسية.
وسوف تثبت التجربة أن العقل الصهيوني (الهدف الصهيوني) لا ينفع معه إلاّ أن تعطيه كل شيء في فلسطين، أو لا تعطيه شيئاً في فلسطين. هذان الحلان هما اللذان يريحان هذا "العقل" ليرضى.
ولهذا، عندما صرح مسؤول من معاوني الإدارة الجديدة-إدارة ترامب أن دولة الفلسطينيين مكانها شرقي الأردن، كان المعبّر عن الهدف الصهيوني- العقل الصهيوني.
لاحظوا تصريح نتنياهو بعد لقائه ترامب، والذي دعا فيه الفلسطينيين إلى الاعتراف بيهودية الدولة وقبول السيطرة الأمنية الصهيونية على وادي الأردن كشرطين للسلام. ولم يقل كشرطين لإقامة دولة فلسطينية كما يريد محمود عباس، أو كعُشرٍ مما يريد، هو والدول العربية التي قد يدعوها ترامب إلى المشاركة في إيجاد حلّ.
الاعتراف بـ"يهودية الدولة" يعني الاعتراف بالسردية الصهيونية للحق في فلسطين ولتاريخ فلسطين. وهي غير قابلة للمساومة من وجهة نظرها. فهي من النوع الذي يؤخَذ كلّه أو يُترَك كلّه. لأن كل أساسها باطل. ولأن اعترافها بأن جزءاً من فلسطين من حق الفلسطينيين يبطل حقها في الأجزاء الأخرى.
لهذا، سيكون نتنياهو في ورطة مع ترامب إذا سعى الأخير إلى أي حل عدا حل الدولة الفلسطينية في شرقي الأردن. وسيكون ترامب في ورطة قاضية عليه إذا قبل بالحلّ في الأردن لأنه بمنزلة الخيانة العظمى فلسطينياً وأردنياً وعربياً وإسلامياً.
فترامب حين يأمل بإبرام "اتفاق سلام كبير" سيجِدُ نفسه مثل سابقيه من الرؤساء مفضلاً التخلي عن المحاولة ما لم يقرر فرضها بالصدام مع نتنياهو. لأن أي مشروع حلّ ستقتله شروط نتنياهو التي لم يذكر منها حتى الآن غير شرطين.