انظر بتبصر إلى مجريات الأحداث في مدينة
بنغازي، وسترى أن سيناريو ما بعد فبراير يتكرر، ولكن بشكل أسرع وأشد احتداما، وعلى أرضية أكثر قابلية للاشتعال.
فبمجرد الشعور أنه تم القضاء على الخطر الأكبر، ظهرت المشاكل بين الحلفاء والشركاء، وأخذت المشاكل اتجاهات مختلفة، لتنذر بجولة جديدة من الصدام.
العامل الأول الذي كان سببا مباشرا في اندلاع الحرب هو التناقضات بين مكونات المجتمع لأسباب تتعلق بالتباعد في الخلفيات الفكرية أو الاجتماعية أو اقترانها بصراع النفوذ.
فدوافع الحرب التي ما تزال مشتعلة منذ ثلاث سنوات، كانت مزيجا بين الفكري والسياسي والاجتماعي.
وظهر اليوم وبعد عملية الكرامة، أن الاستقطاب بين مكوناتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، قائم، ويعبر عن نفسه بطريقته كلما سمح الظرف، ومن مظاهره:
- الخصومة بين جناح من قبيلة العواقير وخليفة
حفتر
- التدافع بين التيار الديني والمدني
- المواجهات المتكررة بين جناح من القوة الخاصة والبحث الجنائي
(ويتداخل هنا عاملان هما الجهوي والنفوذ).
قفز إلى السطح مرة أخرى خلال الأسابيع القليلة الماضية ما يسميه البعض "الصراع الديني المدني"، وذلك من خلال احتكاك حول السلوك العام.
سبب الاحتكاكات قناعة لدى التيار الديني، وهو تيار السلفيين من أتباع الشيخ ربيع المدخلي، الذين كانت لهم المساهمة القوية في عملية الكرامة، أن تيارهم مسؤول عن حماية الدين، وحفظ القيم والأخلاق، وإقامة الشعائر.
ويُعتقد بأن التيار لعب دورا في استصدار قرارات مثل تحديد سفر النساء بمحرم، وتحديد عمر المسافرات من الإناث، وقام بمصادرة شاحنة كتب، والاعتراض على حفلة صاخبة في جامعة العرب الطبية، وما صحب الاعتراض من اعتقالات، وفرض مواضيع خطب الجمعة التي كان من ضمنها تعميم نص يهاجم العلمانية والعلمانيين في
ليبيا، أو ما يسمى "التيار المدني".
ردود الفعل كانت مستهجنة على استحياء، بمعنى أن التنديد ظل خجولا لدواعي الوضع الأمني، حيث أن الحرب ما تزال قائمة، والخطر موجود ولو بدرجة محدودة.
والبعض يعزيه إلى الخوف من بأس التيار الديني السلفي، لكن القلق عند أنصار التيار المدني، وحتى شريحة من عموم الناس، موجود، ويكشف عن نفسه بطرق متعددة.
فقد تحدث العديد من أنصار التيار الليبرالي عن سيناريو مشابه لحضور التيار الديني الجهادي قبل عملية الكرامة ممثلا في أنصار الشريعة، وأنه تم العودة إلى المربع الأول.
ودعا آخرون إلى ضرورة التصدي لهم قبل أن يفرضوا إرادتهم ويتحكموا في المشهد الفكري والثقافي برمته.
بل البعض وجه اتهامه لأنصار هذا التيار بالتورط في جرائم نبش القبور، والتمثيل بالجثث.
في المقابل، كان بيان إدارة المساجد التابعة للحكومة المؤقتة في مدينة البيضاء شديدا في لهجته، وحاملا وعيدا مباشرا لمن وصفهم بالعلمانيين بـ"منعهم بكل الوسائل المتاحة"، وإنه لا مكان لهم في ليبيا إلا أن يلتزموا بالكتاب والسنة.
وعرضت صفحات بعض أنصار
التيار السلفي قائمة تضم أسماء عشرات الكُتاب والنشطاء المحسوبين على التيار المدني واعتبرتهم أعداء للدين، وساقت شواهد على انحرافهم وفق رؤيتهم.
وفسره بعض أنصار التيار المدني أنه تحريض مباشر ضدهم وضد توجهاتهم، وبالقطع هذه بدايات لتطورات خطيرة.
العامل الثاني الذي أسهم في اندلاع الحرب، ويمكن أن يسهم في تكرارها، غياب ثقافة التحاور وتغليبها في البحث عن المشتركات، ومنع تفجرالوضع بسبب التناقضات المشار إليها أعلى، واللجوء إلى التهييج وشيطنة الآخر، والتعبئة ضده بالوسائل المتاحة كافة.
بعبارة أخرى، تفتقر المدينة إلى الإدارة السليمة للخلافات، خصوصا عندما لا يكون الخلاف اجتماعيا أو سياسيا، وتغذيه أيديولوجيات.
وغذت الحرب الراهنة مشاعر واتجاهات العنف والقوة في حسم النزاعات بشكل كبير.
وإذا أضفت إلى ما سبق انتشار السلاح، واستمرار احتفاظ المجموعات الدينية، والجهوية والقبلية، وأصحاب المصالح الخاصة بقوتهم العسكرية المتمثلة في الكيان التنظيمي عبر كتائب منفصلة ومستقلة، واحتفاظها بالسلاح بأنواعه كافة، فإن احتمال تحويل الخلافات الفكرية والتناقضات الأيديولوجية إلى نزاع مسلح راجح.
حفتر عنصر القوة في المعادلة، وركيزة التوازن في بنغازي، وفي حال اهتز موقعه لأي سبب، فإن ذلك سيسرع من الصدام.
أيضا، لأن الأطراف المشار إليها نافذة بكثرة عدد أنصارها وبتسليحها، فسيكون من الصعب السيطرة عليها إلا بالاتجاه إلى تفكيكها، ما يعني خلخلة القاعدة الأساسية للجيش التابع للبرلمان ستؤدي حتما إلى إضعافه.