أهم حدث في تونس هذا الاسبوع لم يكن ما هيمن على الشبكة الاعلامية المهيمنة مثل اغتيال تمساح الحديقة العمومية للحيوانات من قبل مراهقين منفلتين، ولم يكن مقابلات كرة القدم التي اصبحت مناسبة للصراع الجهوي المفتوح والعنف اللفظي والمادي بلا ضوابط، الحدث كان يجب ان يكون البيان الذي اصدره خبير الأمم المتحدة المستقل المعني بآثار الدين الخارجي على التمتع الكامل بجميع حقوق الإنسان، السيد خوان بابلو بوهوسلافسكي اثر زيارته لتونس. كل ما قاله يحيل مباشرة على الجذور العميقة للثورة في تونس، وعلى ان المنظومة القديمة التي قامت عليها الثورة هي (أولا) عقبة لاي تطور حقيقي مادي ومعنوي وبالتالي "عهد بن علي لم يكن افضل" مثلما يردد ايتامه الان، و(ثانيا) هذه المنظومة لاتزال معنا الى الان والثورة الفعلية هي التي ستستطيع تفكيكها وارساء منظومة ادارية واقتصادية جديدة بديلة عنها.
يمكن تلخيص بيان بوهوسلافسكي الذي صاغه اثر لقاءات عديدة مع ممثلي الوزارات المختلفة وممثلي الاحزاب والمنظمات الاجتماعية وممثلي المنظمات المالية الدولية في تونس والهيئات الدستورية والحقوقية، في المحاور والعناوين التالية: خفض الدين العام إلى مستويات اجتماعية مستدامة، وضرورة أن يتبع التكيف الاقتصادي مقاربة قائمة على حقوق الإنسان، وعدم تكرار التجارب الفاشلة في الماضي، ومقاربة إصلاح الضمان الاجتماعي القائمة على الحقوق، وضمان الشفافية والمشاركة والعدالة في الميزانية والضرائب، وخفض العجز العام من خلال الحد من الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة، وإرساء المساءلة عن التواطؤ المالي والجرائم الاقتصادية الماضية، وإدماج أهداف وتوصيات الأمم المتحدة في سياسات الإصلاح، وأخيرا أن الاستثمار في الحقوق الاجتماعية سيؤدي إلى نجاح الديمقراطية في تونس.
لنبدأ باحد اهم الخلاصات والمتعلقة تحديدا بحزمة "الاصلاحات" المقترحة من قبل المؤسسات المالية الدولية خاصة صندوق النقد والتي تتجه الحكومة لتبنيها بشكل اكثر وضوحا وعلنية وتحديدا ما يتعلق منها بالتقشف. اذ يذكر بوهوسلافسكي في احد استنتاجاته: "من السديد في هذا الصدد، أن نثير الاستنتاج الرئيسي الوارد في تقريري الأخير الموضوعي المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان: بشكل عام، لا دليل تجريبياً على أن إصلاحات سوق العمل ذات الصلة بالتقشف (على سبيل المثال، تجميد أو تخفيض الأجور والحد الأدنى للأجور) ينتج عنها زيادة في النمو الاقتصادي أو العمل أو في تحسن وضع العمال".
وفي موضع اخر يؤكد بوهوسلافسكي: "هناك الآن التزام واضح بتحقيق نمو اجتماعي شامل في وثائق البرنامج الرسمي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومع ذلك، فإنه يمكن التساؤل عما إذا كانت الشروط والمعايير المدرجة في البرنامج الحالي للإصلاح الاقتصادي البالغة قيمته 2.9 مليار، تعكس كما هو واضح قطيعة مع السياسات السابقة. في رأيي، ينبغي أن تستند تدابير التكيف إلى رؤية مبنية على استقرار اجتماعي وسياسي ومالي طويل الأمد، وينبغي أن تكون سياسات الإصلاح على اطلاع على الأهداف الإنمائية المستدامة للأمم المتحدة والمقاربة القائمة على حقوق الإنسان في مجال التنمية." وهو ما يعتبر رفضا واضحا لهذه السياسات.
وفي سياق مكافحة الفساد يؤكد التقرير على خطورة المرحلة التي سبقت الثورة وحجم الفساد الذي تميزت به حيث اشار مثلا الى حجم الاموال المهربة: "وقد قدرت الأبحاث الأكاديمية أن مجموع هروب رؤوس الأموال غير المشروعة من تونس قد بلغ 38.9 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من سنة 1960 إلى سنة 2010، منها 33.9 مليار دولار خلال نظام بن علي." وهو ما يحيلنا على الاثر البديهي لذلك على منظومة التنمية وتفقير اجزاء واسعة من التونسيين.
ومن جهة اخرى في اطار لقاء مع هيئة الحقيقة والكرامة شدّد الخبير الأممي على أهمية التحقيق "بشكل حاسم في دور ومسؤولية المقرضين والجهات المانحة الأجانب الذين ساعدوا ماليا نظام بن علي لسنوات عديدة في سياق العدالة الانتقالية".
والحقيقة سواء في ملف ارساء تنمية عادلة او مكافحة الفساد او ارساء العدالة الانتقالية نحن في اقل الاحوال ازاء حكومة مرتعشة ان لم تكن متواطئة مع المنظومة القديمة التي ينصح الخبير الاممي بتجاوزها وعدم تكرارها. والتوطؤ يصبح احتمالا جديا على اساس عدة مؤشرات اخرها ما كشفه وزير الوظيفة العمومية عبيد البريكي المقال منها والذي اعلن في ندوة صحفية على ملفات خطيرة.
تحدث البريكي على سبيل الذكر لا الحصر على ملفات فساد في عدة قطاعات واخلالات بالجملة من أبرزها انتدابات استثنائية لفائدة جهات معينة بتعليمات من رئيس الدولة وتعيينات لرؤساء مديرين عامين بطرق ملتوية وليس حسب كفاءتهم رغم نفي رئيس الجمهوريّة علمه لها. وقال أنه قدم لرئيس الحكومة قائمة بأسماء مئات التجار الموردين الذين لم يقوموا بخلاص الأداءات والمعاليم الديوانية والدولة تقف عاجزة أمامهم، موضحا أنّ ديون أحد الموردين بلغت 211 مليون دينار. وتحدّث عن اقتراحه تجميد الرمز الديواني على رئيس الحكومة لتجميد أنشطة المتهربين إلى حين إعادة جدولة ديونهم لكن لم يقع الأخذ به، لافتا إلى وجود بارونات 'فريب' متهربة من الأداء الجمركي وتستفيد من الإعفاء الجبائي.
وكشف تلقّي شخصية تونسية فاعلة خلال الأيام القليلة الماضية مبلغا ماليا يناهز الـ12 مليون دولار من دولة أجنبية دون محاسبتها أو فتح تحقيق في الغرض، على حدّ تعبيره. وأكّد البريكي أن الحكومة لم تتعامل مع هذه الشخصية طبقا لقانون رفع السر البنكي ولم تحقق معها عن مصادر هذه الأموال.
المثير في الامر أن رئيس الحكومة انتهى الى الغاء وزارة "الوظيفة العمومية والاصلاح الاداري" رغم اهمية هذية الملفين ومن الواضح انه يتجه الى وضعهما ضمن كواليس رئاسة الحكومة بعيدا عن الاضواء.